الاثنين، 11 يناير 2010

مشروع ميثاق العمل الإسلامي


مشروع ميثاق العمل الإسلامي


بسم الله الرحمن الرحيم



بقي بضعة أشهر وينتهي القرن العشرون، فهل هناك برنامج عمل يستقبل به العرب والمسلمون القرن الحادي والعشرين؟! وقد مضى القرن العشرون ولم يحقق به العرب والمسلمون إلا الاستقلال وشيء من التنمية. فالوحدة العربية أصبحت أمراً بعيد المنال. ومشاريع الحداثة لم تفِ بوعودها ورسّخت نظماً استبدادية وصائية تحت شعار الحداثة والعلم والتقدمية. والصحوة الإسلامية تسير في متاهات أولها مايقال عنه الحجاب الشرعي، وأوسطها إعادة طباعة كتب التراث بالملايين، وآخرها أعمال العنف ذات الأهداف الغامضة. فهل هناك ورقة عمل إسلامية ندخل بها القرن الواحد والعشرين تحمل الصفة الإنسانية الشمولية دون إغفال الواقع المختلف لكل قوم وشعب؟!
طلب مني المنبر الدولي للحوار الإسلامي ومن آخرين في العالمين العربي والإسلامي مشروع ميثاق للعمل الإسلامي يكون ورقة عمل للحركات الإسلامية للقرن الواحد والعشرين يتضمن المبادئ الرئيسية العامة للإسلام. فاستجبت لطلب المنبر وها أنا أقدم للقارئ مشروع ميثاق العمل الإسلامي، وكونه يحمل الصفة الإنسانية الشمولية فهو صالح أيضاً كميثاق للعمل القومي، وذلك لمناقشته في الندوات وفي كل وسائل الإعلام الممكنة. فما أصبت فيه فبتوفيق من الله، وما أخطأت فمن نفسي.
والله ولي التوفيق.

دمشق في 1 تموز 1999

الدكتور محمد شحرور



بسم الله الرحمن الرحيم


تقديم

الميثاق لغة هو الرابط. وهو تلك العلاقة التي تربط بين طرفين إما بالقوة (الوثاق)، أو تقوم على ثقة متبادلة طوعية بينهما (الميثاق). ولقد ورد هذا المصطلح في التنـزيل الحكيم بمعناه الأول في قوله تعالى:
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) (الفجر 26،27).
(فإذا لَقيتُمُ الّذينَ كَفَرُوا فَضَربَ الرّقَابِ حَتّى إِذا أَثخَنتُموهُم فَشُدّوا الوَثَاقَ فإِمّا مَنّا بَعدُ وإِمّا فِدَاءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد4).
كما ورد بمعناه الثاني في قوله تعالى:
(إِذا أَخَذنَا مِيثَاق بَني إِسرائيلَ لا تَعبُدُونَ إِلّا الله وبِالوالِدَينِ إِحسَانَا وذِي القُربَى واليَتَامَى والمسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصّلَاةَ وَآتُوا الزّكَاةَ ثُمّ تَوَلّيْتُمْ إِلّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (البقرة 83).
(فَبِما نَقٍضِهم ميثَاقُهم لَعَنّاهُم وَجَعَلنَا قُلُوبَهُم قَاسِيَة يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَن مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمّا ذَكّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة 13).
وقد يكون الميثاق عقداّ ينظم حالة تعاقدية بين طرفين، بإعتبار معناه الأول، من حيث أنه التزام يربط بين طرفين، الا أن العقد لايكون ميثاقاً أبداً. فلقد شاء الله أن تكون العلاقة بينه وبين الناس علاقة ميثاقية وليس علاقة تعاقدية، إذ لو كان كذلك لنتج عنها عقد إذعان، باعتبار أن الله سبحانه هو الطرف القوي في العقد.
وليس هذا التفريق الدقيق في المبنى والمعنى ترفاً لغوياً لا فائدة منه. كما يتوهم البعض. إذ بفضله نفهم العديد من المقاصد الإلهية، وبدونه يغيب عنا العديد من هذه المقاصد. ونرى كيف أن الله سبحانه يسمى الزواج ميثاقاً غليظاً، وليس مجرد عقد نكاح أو عقد بالتراضي كما نسميه نحن اليوم. يقول تعالى:
(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) (النساء 21).
فالإيمان بالربوبية ميثاق، يقوم على ثقة المخلوق بالرب الخالق، خالق القوانين والنواميس في الكون، وعلى ثقته بدوام هذه القوانين الدقيقة المحكمة التي يتساوى في الخضوع لها المطيع المؤمن من الخلق مع العاصي الكافر.
فالخلق كلهم يشهدون بالربوبية منذ أن كانوا ذرية في ظهور آبائهم (وشهادتهم هي وجودهم نفسه) (وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف 172) حتى إبليس لم يستطع في عصيانه إنكارها، وذلك في قوله تعالى: (قَالَ رَبّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ) (الحجر 36،37).
ولكن إذا كان ميثاق الربوبية وثاقاً قاهراً لا يملك المخلوق إلا الإذعان لقوانينه وظواهره الطبيعية (القدر)، فإن ميثاق الألوهية شيء آخر مختلف تماماً، يقوم كما قلنا على ثقة متبادلة بين الطرفين فيه، فالله تعالى يثق بالانسان ويعلن هذه الثقة صريحة على ملائكته سلفاً وقبل أن يعلم الإنسان ذلك في قوله لهم (وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة 30). فخلافة الإنسان لله في الأرض تم التعبير عنها مادياً في نفخة الروح (المعرفة والتشريع) وحرية الاختيار (الأمانة) (إِنّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب 72)، فالخلافة والأمانة هما التعبير الموضوعي المباشر عن ثقة الله بالإنسان.
وتم هذا قبل أن يُطالَبَ الإنسان بأي شيء، وبهما تمّ تكريم الإنسان على كثير من المخلوقات (وَلَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطّيّبَاتِ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الاسراء 70)، ويبقى على الإنسان من طرفه أن يثق بالله، ثقة تنبع من إرادة واعية تختار بكامل حريتها هذه الثقة وتؤمن به وتطيع أوامره ونواهيه.
من هنا فإننا نعلن أن الإسلام ميثاق بين الله والناس (العالمية)، وأن الإيمان ميثاق بين الله والمؤمنين من أتباع الرسالة المحمدية (الخصوصية). ونعلن أننا كمسلمين أولاً وكمؤمنين ثانياً نثق بالله، ثقة واعية حرة لا إكراه فيها، وهذا يقودنا الى الكلام عن الحرية وعن المعرفة وعن التشريع والتي لايحق لأحد كائناً من كان مصادرتها أو ادّعاء احتكارها أو الوصاية عليها لأنها ملك جميع الناس كالحياة تماماً وبدونها يتحول المجتمع الإنساني إلى مجتمع بهيمي. أي مايميز المجتمع الإنساني العلم والتشريع والأخلاق والحرية (الأمانة والخلافة) وهذه كلها هبات من الله تعالى للإنسان، والناس تطلب الأشياء حسب معرفتها لها. فلقد ظلت العلاقة الميثاقية بين الله والناس، كما عرّفناها آنفاً، غائمة، غامضة في كتب التراث وأهله، إلا من رَحِمَ ربك، وكأنما ثمة اتفاق غير معلن بين الفقهاء جميعاً على تجنب الغوص فيها والكلام عنها، أما الحرية فقد كانت وما زالت حقلاً محظوراً في العديد من الدول الإسلامية لا يجوز لأحد الدخول فيه.
فاكتفوا بالمعنى الوحيد الذي يحفظ لهم سلامتهم واعتبروا أن الحرية هي خلاف الرق أيام كان الرق نظاماً اجتماعيا شائعاً معمولاً به. أما الأسباب فلا تخفى على كل ذي لب يرفض أن يدفن رأسه في رمال التراث، وليس هنا موضع تفصيلها. وأما المعرفة فقد تمّ فيها فرض وصاية الخاصة على العامة وفرض منهج معرفي بعينه لايُقبَلُ غيره. وأما التشريع فقد خضع لمستلزمات إيديولوجية صارمة كبلته وجعلته متزمتاً وألغت موافقة ورأي الناس في التشريع المقدم والذي سيطبق عليهم حتى ولو كان اجتهاداً فقهياً وكأن الناس في الفقه لاوجود لهم، وهم عبارة عن أحجار شطرنج أو مجموعة من الناس ذوي جهل مطبق.
إلا أن هذا كله ـ برأينا ـ لاعلاقة له بالمقصد الإلهي من الخلق. فقد خلق تعالى المخلوقات الآدمية وجعلهم عباداً ولم يجعلهم عبيداً، وترك لهم في آيات عديدة كثيرة حرية اختيار الطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، ثم وعدهم باللقاء يوم الحساب ليكافئ من أحسن الاختيار ويعاقب المسيء.
لقد تعهد الله سبحانه في التنـزيل الحكيم كطرف أول في الميثاق بينه وبين الناس:
ـ أن يرحم الناس ويرزقهم. (نَبّئْ عِبَادِي أَنّي أَنَا الْغَفُورُ الرّحِيمُ) (الحجر 49). وقدر الله أرزاق الناس وبقية المخلوقات الحية في الأرض قبل أن يوجد الإنسان (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَوَاءً لِلسّائِلِينَ) (فصلت 10) والله يرزق عباده كلهم سواء للسائلين من مقام ربوبيته لهم.
ـ وأن يغفر لهم ويتوب عليهم... (قُلْ يَاعِبَادِي الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعًا إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ) (الزمر 53).
ـ وأن يجيب دعاءهم ويهديهم. (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة 186).
ـ وأن يحق الحق وينصر المظلوم. (وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنّهَا لَكُمْ وَتَوَدّونَ أَنّ غَيْرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقّ الْحَقّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) (الأنفال 7). (وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام 115).
وطلب من الناس في ميثاق الإسلام أن يتعهدوا:
- أن يؤمنوا بالله إلهاً واحداً (قُلْ إِنّمَا يُوحَى إِلَيّ أَنّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (الأنبياء 108).
- وأن يؤمنوا باليوم الآخر.. يوم الحساب (مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة 62). (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة 112).
- وأن يعملوا صالحاً ينفعهم وينفع الخلق، وهذا العمل الصالح مفتوح البنود ومتطور ومتعدد إلى أن تقوم الساعة ملتزمين بجدول تفصيلي عند أداء هذا العمل الصالح هو الوصايا، أو المثل العليا، أو الفرقان أو الصراط المستقيم أو القانون الأخلاقي، أو ما شئت من أسماء.

يقول الله تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَالنّصَارَى وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة 62) ثم ينتقل فوراً في مطلع الآية 63 بعدها ليقول: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ) (البقرة 63)
ونفهم أن كل من التزم بكامل إرادته دون إكراه بهذه البنود الثلاثة التي تشكل ميثاق الإسلام كان عند الله مسلماً، بغض النظر عن الملة التي ينتمي اليها وعن الشريعة التي يطبقها، محمدية كانت أم نصرانية أم يهودية أم صابئة عن هذه الملل السماوية الثلاث. ونلاحظ أن جدول وصايا الإلتزام بالمثل العليا، جاء للناس جميعاً، وهو لهذا يحمل صفة العالمية والإنسانية، إضافة الى أنه جاء متدرجاً تدرجاً تراكمياً منذ نوح الى محمد (ص)، مروراً بالأنبياء والرسل عليهم صلوات الله جميعاً. كما نلاحظ أن النبي المتأخر كان يدعو الى ما دعا إليه من سبقوه مضيفاً إليها ما جاءه. ولهذا نجد أن الوصايا والمثل تراكمية، ونفهم القول النبوي، إن صح، ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
أما ميثاق الإيمان فهو ميثاق بين الله وأنبيائه من جهة والمؤمنين بهؤلاء الأنبياء من جهة أخرى. ويشمل هذا الميثاق التصديق بنبوة الأنبياء ورسالات الرسل، وإقامة الشعائر الدينية من صلاة وصوم وزكاة (آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة 285).
فشهادة أن لا إله إلا الله، رأس بنود ميثاق الإسلام، مطلوبة من كل الناس ومن كل الخلق، أما شهادة أن محمداً رسول الله، رأس بنود ميثاق الإيمان، مطلوبة من أتباع الرسالة المحمدية، تماماً كالصوم والصلاة على الطريقة المحمدية، إذ لكل نبي طريقة في الصلاة والصيام خاصة به وبالمؤمنين به من قومه. بدلالة قوله تعالى: (لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة 48).
فمثلاً الصوم هو أيام معدودات عند كل الملل، وتتمثل عندنا نحن المؤمنين في شهر رمضان، وعند غيرنا صوم آخر ليس في رمضان وكذلك الصلاة الشعائرية فتختلف من ملة إلى أخرى. وهكذا نرى أن التنوع والإختلاف من سنن الله في خلقه حتى في الصلاة والصوم، وقد أكد هذا التنوع في قوله تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود 118). والشيء الوحيد الذي لايحتمل التنوع هو أركان الإسلام (الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ـ الإلتزام بالصراط المستقيم) فهو إنساني لكل العالم وإلى أن تقوم الساعة.
من هنا فنحن نجد في التنـزيل الحكيم إيمانين، الأول إيمان تسليم بأن لا إله إلا الله (الإسلام ـ المسلمون)، والثاني إيمان تصديق بأن محمداً رسول الله (الإيمان ـ المؤمنون)، كما في قوله تعالى: (يا أَيّها الّذينَ آمَنُوا آمِنوا باللّهِ وَرَسُولِهِ والكِتابِ الّذي نَزّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالكِتَابِ الّذي أَنزَلَ منْ قبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ باللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً بَعيدَا) (النساء 136) ثم قوله في الآية التي بعدها مباشرة: (إِنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) (النساء 137).
ونجد أن الأوامر الإلهية تتوجه تارةً الى الذين آمنوا بالله واليوم الآخر الذين يسميهم الله “الناس”، وتتوجه تارةً الى المؤمنين بمحمد (ص) ويسميهم الله “المؤمنين” أما أمثلة الحالة الأولى فهي:
- (اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَالّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النّورِ إِلَى الظّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة 257).
- (وَمِنْ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة 8).
- (يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء 1).

وأما أمثلة الحالة الثانية فهي:
- (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ) (البقرة 183).
- (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ..) (النساء 43).
ـ (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصّادِقُونَ) (الحجرات 15).

إنطلاقاً من هذا التفريق، ومن أن إيمان التصديق بالرسالات والرسل لايكون إلا بعد إيمان التسليم بألوهية وربوبية الله ووحدانيته، نرى أن ثمة حاجة ملحة لقراءة التنـزيل الحكيم بعين معاصرة دقيقة عميقة، وإعادة تصنيف الأحكام والأوامر الإلهية، ما يخص الناس من المؤمنين بالله واليوم الآخر.فنتعامل معهم على أساسه، وما يخص المؤمنين من أتباع الرسالة المحمدية فلا نلزم الآخرين به.

ولعل خير مثال على ما نذهب إليه، قوله تعالى يفتتح سورة الصف:
(سَبّح لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيّهَا الّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ * إِنّ اللّهَ يُحِبّ الّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا كَأَنّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف 1 ـ 4).
فلقد أجمع أصحاب كتب “أسباب النزول” على أن الآيات نزلت في أتباع محمد (ص) بمعركة أحد، وعلى هذا فهي خاصة بهم ولا تلزم غيرهم. وغفلوا عن الآية الأولى التي تشير صراحة الى الإيمان بالله، وافترضوا أن لليهودي والمسيحي ألا يقاتل صفاً في سبيل الله، وأن له أن يقول ما لا يفعل مجردين بذلك الرسالة المحمدية من بعدها العالمي ومن شمولها الانساني.

أما قوله تعالى:
(وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنْ الْعَالَمِينَ) (آل عمران 97). وقوله: (وَأَذّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيقٍ) (الحج 22). فهي مشكلة على الدارسين الإسلاميين إيجاد حل لها. لأن فقهاء العقائد والأصول اعتبروا الحج من أركان الإسلام كالصلاة والصوم (والتي هي من أركان الإيمان وليس الإسلام) خاصاً بأتباع الرسالة المحمدية رغم أن التكليف به يشمل الناس جميعاً.


مشروع ميثاق العمل الإسلامي


1 - التسبيح هو شكل الوجود فكل الأشياء العاقلة وغير العاقلة في حركتها الدائمة المتغيرة تنزّه الله من أن يكون مثلها فينطبق عليه قانون التحوّل والتطوّر فيفسد ويهلك (كُلّ شَيءٍ هَالِكٌ إِلّا وَجهَهُ) (القصص 88) (وَإِنْ مِن شَيءٍ إلّا يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا تَفقَهُون تَسبيحَهُم) (الإسراء 44).

2 - الخلق كلهم عيال الله، مؤمنهم وكافرهم، مسلمهم ومجرمهم، موحدهم ومشركهم، مطيعهم وعاصيهم، خلقهم من تراب وجعلهم عباداً ولم يجعلهم عبيداً. يطيعونه بملء إرادتهم ويعصونه بحرية اختيارهم ولا يخرجون في الحالتين عن كونهم عباداً. وأن لكل إنسان الحق في أن يعتنق أي ملّة وأي دين يرغب به، وأن يغير دينه أو ملته، وأن يعلن ذلك دون خوف من قتل أو اضطهاد، وهو عبد الله في كل الحالات شريطة الالتزام بالجانب الإنساني الاجتماعي بالوصايا والعمل الصالح، كالامتناع عن قتل النفس وشهادة الزور والغش بالمواصفات والكذب، هذا الجانب الذي هو أكبر من التصويت وأكبر من الرأي والرأي الآخر (لَا إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنْ الغَيّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة 256). وقال تعالى: (قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) (هود 28).

3 - الحياة هي هبة من الله تعالى للناس جميعاً فلا تؤخذ إلا بحقها، وحقها هو النفس بالنفس كحد أعلى لعقوبة القتل (وَلَا تَقْتُلُوا النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلّا بِالْحَقّ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الأنعام 151)، أي أن الأساس في الدماء هو الحرام، والحلال هو الإستثناء وهو ماحدده الله حصراً في آياته. أو فساد في الأرض (جرائم ضد الإنسانية). لذا فلكل إنسان الحق في الدفاع عن حياته والعناية بصحته في المأكل والمشرب والطبابة، وله حق المطالبة بذلك لأن عمر الإنسان مفتوح غير ثابت (كتابٌ مؤجلٌ وليس كتاباً موقوتاً) (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ كِتَابًا مُؤَجّلًا) (آل عمران 15).

4 - الحرية هي الشكل الوحيد الذي تتجسد فيه عبادية الإنسان لله تعالى، تحقيقاً لقوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات 56). وليس في إقامة الشعائر من صلاة وصوم كما يزعم البعض، بل تشمل العبادة كل نشاطات الإنسان وأفعاله وأعماله ضمن الإختيار الحر وضمن نشاطات وبنود الحياة الدنيا التي وصفها تعالى بقوله: (اعْلمُوا أَنّما الحَياةُ الدُنيَا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَزينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَينَكُم وَتَكَاثُرٌ في الأَموالِ وَالأَولادِ كَمَثَلِ غَيثٍ أَعجَبَ الكُفَارَ نَباتُهُ ثُمّ يَهيجُ فَتَراهُ مُصفَراً ثُمّ يَكونُ حطاماً وفي الآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد 20). وتأمين حرية ممارسة بنود الحياة الدنيا هو من أهم أساسيات النظام السياسي والاقتصادي للمجتمع، لأن تقدم المجتمع وازدهاره يقوم على هذه البنود.

5 - بما أن المعرفة والتشريع هما نتاج نفخة الروح في الإنسان، فإن حق الإنسان في اكتساب المعرفة (التعليم)، وحقه في انتخاب ممثلين عنه للتشريع (البرلمانات) هما من الحقوق المقدسة التي لاتمس كالحرية والحياة.

6 - يقول الله في قوم موسى (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنّهُمْ لَفِي شَكّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (هود 110) ويقول في قوم محمد: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللّهُمّ وَتَحِيّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ) (يونس 10). وكذلك يقول في كل الأمم والأقوام.
وهذه الكلمة التي سبقت هي كلمة الحرية عند الإنسان أن يطيع ويعصي وأن يتخذ القرارات (الأمانة)، وهي كلمة العدل بالحساب عند الله أن لا يظلم بحسابه أحداً. ففي مجتمع الحرية والعدل نجد أن كلمة الله هي العليا، وفي مجتمع القمع والظلم تجد أن كلمة الله هي السفلى، بغض النظر عن الأسماء والشعارات التي يتسمى بها هذا المجتمع ويرفعها إسلامية أم علمانية أم قومية، وبغض النظر عن شكل الحكم فيه ملكياً أم جمهورياً أم غير ذلك.

7 - العدل والحرية قيم مطلقة يمارسها الإنسان في مجتمعه بشكل نسبي، والشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي التعبير العام الذي ورد في التنزيل الحكيم عن هذه القيم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما إما جزء لايتجزأ من الشورى أو جزء متمم لها لاتكون بدونه:
آ - الديمقراطية هي أفضل تقنية نسبية توصل إليها الإنسان حتى الآن لممارسة الشورى كقيمة إنسانية مطلقة وردت في التنـزيل الحكيم (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى 38)، وهي ملك للإنسانية جمعاء، وليست حكراً على أي مجتمع، والأخذ بها لايعيب أحداً وفيها تظهر الثقافة الحقيقية للناس ودرجة الوعي التاريخي للحرية.
ب - كما أن الديموقراطية هي أفضل تقنية نسبية توصلت إليها الإنسانية لممارسة الشورى، فإن المعارضة ـ والتي هي جزء لايتجزأ من الديموقراطية ـ هي أفضل تقنية نسبية توصل إليها الإنسان بخبرته لممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتبار أن هذا الأمر والنهي هو من مهام المعارضة حصراً، ولايمكن لها أن تمارسه وتحققه إلا بوجود الأمور التالية:
- التعددية الحزبية.
- حرية الرأي والرأي الآخر.
- حرية التعبير عن الرأي بالوسائل السلمية المتاحة.
ولا يجوز للدولة أن تمارس مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ تنعدم في هذه الحالة الرقابة على الدولة وتتحول إلى سلطة قمعية لايوجد من يوقفها. فالدولة هي أكبر مؤسسة في المجتمع قابلة للفساد والرشوة والمحسوبية، لما تملكه من سلطة ومال وقوة، وهي من هنا أحوج من غيرها إن لم نقل إنها المحتاج الوحيد إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالسمكة كما يقول المثل الألماني تفسد من رأسها.
وإن أحزاب المعارضة أولاً، ثم كل الناس هي التي تمارس هذه المهمة لذا قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ) (آل عمران 104). وقال (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران 110)
ج - لا ديموقراطية دون معارضة، ولا ديموقراطية دون تعددية حزبية ولا ديموقراطية دون حرية للرأي والرأي الآخر. وهذا يوضح أهمية المعارضة كأساس من أسس المجتمع الإسلامي الذي هو المجتمع المدني.
د - إن للديموقراطية، كشكل من أشكال الحكم والحياة، وكإطار ينظم ممارسات الإنسان في مجتمعه، جوانب سلبية إضافة إلى جوانبها الإيجابية، لكن ذلك ليس مبرراً أبداً لنبذها واستبدالها بحكم الفرد الواحد أو الحزب الواحد أو النخبة الواحدة.

8 - الإسلام بشكله النقي النظري موجود في التنـزيل الحكيم فقط. ولذا فهو مطلق في ذاته (كلام الله) ولا يمكن أن تتجسد مصداقيته إلا بالممارسة، وإلا من خلال الوجود الطبيعي (القوانين الكونية) والاجتماعي (الأحكام). بعبارة أخرى مصداقية كلام الله في التنـزيل لاتوجد إلا في كلماته (الوجود) وتظهر هذه المصداقية خلال مسيرة التاريخ الإنساني ككل وليس التاريخ العربي أو التاريخ العربي الإسلامي.

9 - التطور والتغير سنة من سنن الله تعالى في الكون. فالمجتمعات الإنسانية هي مجتمعات متطورة، ومن هنا فإن إعادة قراءة آيات الأحكام (الشريعة) باستمرار تصبح ضرورة لاغنى عنها لتجسيد مصداقية هذه الأحكام على أرض الواقع.

10 - إن كل قراءة وفهم وتفسير يقوم بها أي إنسان لآيات الأحكام وتجسيدها على أرض الواقع تطبيقياً، إنما هو نشاط إنساني بحت يقبل الخطأ والصواب، والصواب فيه نسبي. فما هو صالح لزمان قد لا يصلح لزمان آخر. والقداسة من صفات الله تعالى فهو القدوس وحده، ومن صفات كلامه كما هو في التنـزيل، أما ماعداه فلا قداسة فيه. وليس أكثر من نشاط إنساني بحت يحمل الصفة الاجتماعية التاريخية النسبية، التي تختلف من زمان إلى آخر، ومن مجتمع إلى مجتمع آخر.

11 - لاأحد فوق المساءلة فرداً كان أم حزباً أم مؤسسة. وفي حال وجود أحد فوق المساءلة فهذا تعدّ على حاكمية الله. فالله تعالى وحده:
- (لَا يُسْأَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء 23)، وغير الله يُسأل عما يفعل.
- (فَعّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (البروج 16)، وغير الله ليس بفَعّالٍ لما يريد.
- (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) (الكهف 26)، وغير الله يُشركُ في حكمه أحداً.
- ربُ العالمين (مالك الكون ـ مقام الربوبية)، وغير الله لايملك كل شيء.
- إله الناس (الألوهية ـ الطاعة المطلقة)، وغير الله لايحق له طلب الطاعة المطلقة. ولايحق له سن تشريعات شمولية وأبدية كائناً من كان فرداً أم مؤسسة.
فحاكمية الله بشكلها المطلق الصافي لاوجود لها إلا عند الله، أما محاولات التطبيق كلها فنشاطات إنسانية بحتة لاعلاقة لله أو لحاكميته بها لأنها نشاطات إنسانية سلطوية تاريخية جغرافية. وكل من يزعم أنه يمثل حاكمية الله فهو مضلل مفسد وذلك لتغطية القمع ومصادرة الحريات.

12 - الديموقراطية في المجتمع شكل يمارس الإنسان حريته من خلاله، ولهذا الشكل أسس ومرجعيات أبرزها:
- ميثاق الإسلام: الذي يقوم على الوصايا والمثل العليا الإنسانية الفطرية، الواردة في سورة الأنعام (151، 152، 153). وميزتها أن الإنسان يقبل بها قبول تسليم لايخضع لاستفتاء أو تصويت، ولا مكان فيها للرأي الآخر. فالإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح لايخضع للتصويت، ويأخذ به الإنسان بكامل حريته وإرادته. والتوحيد وبر الوالدين وعدم قتل النفس بغير حق واجتناب الفواحش والإحسان إلى اليتيم والتقيد بالمواصفات دون غش وحفظ العهود والوفاء بها، كل هذه قيم إنسانية لاتخضع للتصويت لافي دولة دينية ولا في دولة علمانية.
ولا محل فيها لأي معارض آخر، لأنها مرجعية لجميع الفرق والأحزاب والطبقات والملل، وفيها تتجلى حاكمية الإسلام ويتجسد صدق قوله تعالى (إِنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران 19)، وقوله تعالى (وَمَنْ يَبْتَــغِ غَيْــرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران 85). أما ميزتها الأخيرة فهي أنها لاتحمل الصفة التشريعية، فهي أعلى من التشريع، وأعلى من كل برلمانات الدنيا، باعتبارها ميثاقاً إلهياً يحمل السمة العالمية والإنسانية المطلقة في كل زمان ومكان. ولاتخضع أيضاً للتصويت بل لحرية الاختيار بجانبها العقائدي (الإيمان بالله واليوم الآخر والتوحيد).
- أما ميثاق الإيمان بنبي من الأنبياء، ورسول من الرسل، واعتناق ملة من الملل تؤمن بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، فميثاق شخصي بحت، ولاعلاقة للدولة به ولايدخل في بنيتها. إذ العمود الفقري فيها تصديق أحد الأنبياء والرسل وإقامة الشعائر من صلاة وصوم وزكاة، وهذه كلها أمور شخصية لاتؤثر في بنية الدولة، ولاتخضع للتصويت في البرلمان وهي ما يطلق عليه في المصطلح الشائع كلمة دين عندما يقال (الدين لله والوطن للجميع)، والمجتمعات الإسلامية (ضمن مفهوم الإسلام الذي شرحناه آنفاً وليس بمفهومه الشائع عند الفقهاء اليوم، تقبل وقد قبلت في الماضي وجود المساجد جنباً إلى جنب مع كنائس النصارى ومعابد اليهود ومعابد البوذية والبراهمة “من الصابئة”).
- المرجعية العرفية والمعرفية والجمالية: وهي مرجعيات متطورة، تختلف من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن مجتمع إلى مجتمع آخر، بحسب تطور الشعوب والأقوام والجماعات الإنسانية. وهي التي تحدد خصائص الديموقراطية المحلية ضمن بقعة جغرافية محددة في برهة زمنية تاريخية معينة.
- أما الشريعة الإسلامية (آيات الإحكام الواردة في التنزيل الحكيم) فهي شريعة حدودية لاحدية، وقطع يد السارق هو الحد الأقصى للعقوبة وليس عين العقوبة. وعقوبة القتل للقاتل هي الحد الأقصى لعقوبة القاتل (حدود الله). ومن هنا نرى أن معظم التشريعات الإنسانية في المجتمعات المدنية الصادرة عن البرلمانات هي ضمن حدود الله وفي هذا المفهوم تحتمل الاختلاف من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر وكلها صحيحة مقبولة لأنها ضمن حدود الله، وهذه هي الحنيفية التي قال عنها (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم 30).

13 - الدين الإسلامي معتقد إنساني، لايخضع للزمان (التاريخ) ولا للمكان (الجغرافيا) أما الدولة فكيان مؤسساتي تحكمه الحدود الجغرافية المرسومة وحدود فترة تاريخية ما كالدولة الرومانية، والدولة العربية، ولهذا فهي تحتاج إلى تشريعات ونواظم غير موجودة في كتاب الإسلام (التنزيل الحكيم)، وهذا ما مارسه الرسول الأعظم (ص) في المدينة المنورة كرئيس للدولة التي أسسها هناك.
وهنا يتضح أمامنا معنى السنة النبوية في غير الشعائر، التي هي تشريعات لمجتمع المدينة المنورة، لدولة من القرن السابع الميلادي في شبه جزيرة العرب. لاتحمل الصفة الشمولية المطلقة بتاتاً، انتقاها الرسول الأعظم ومارسها ضمن مرجعيات أولها كتاب الله والمرجعية العرفية والمعرفية والجمالية أي أن السنة النبوية في غير الشعائر هي القانون المدني للدولة التي أسسها الرسول حصراً وليست شرعاً إسلامياً في القرن السابع في شبه جزيرة العرب ولابعده لأن الرسول تصرف ضمن حدود الله، وواقفاً عليها أحياناً، طبقاً للظروف الموضوعية التي عاشها.

14 - بما أن الدين الإسلامي دين إنساني عام شمولي وهو الدين الوحيد الذي ارتضاه الله للناس وخضع للتطور التراكمي على خط سير التاريخ من نوح حتى محمد (ص) وبالتالي ليس له علاقة بالجغرافيا فمثلاً هو للإنكليز كما هو للعرب تماماً، وبما أن مفهوم الدولة في حدودها مفهوم جغرافي بحت، لذا فإن القومية والمصالح الاقتصادية المشتركة هما من أهم الأسس في تحديد رقعة الدولة الجغرافية (الوطن) لذا فلانرى أي تعارض بين الإسلام كدين شمولي إنساني عام (ياأيها الناس) وبين القومية والتي هي خطاب محلي خاص بقوم معينين (ياقومِ).
فالإسلام جاء إلى الناس (ياأيها الناس) والنبي (ص) خاطب قومه (ياقومِ). أما مفهوم المواطنة والمواطن فهو يشمل الخطابين معاً، الإنساني الذي يغطي الناحية الإنسانية، والمحلي الذي يغطي الجانب المحلي. أي أن الإسلام كافٍ لإقامة مجتمع إنساني بغض النظر عن الزمان والمكان ولكنه غير كافٍ لإقامة دولة زمانية مكانية وتحديد حدودها. بل يضاف إليه عناصر لإقامة الدولة كالقومية والتاريخ والجغرافية والمصالح الاقتصادية المشتركة والقوى العسكرية.

15 - تحريم الحرام من اختصاص الله تعالى حصراً لأن الحرام شمولي وأبدي، والمحرمات الأساسية لاتتجاوز في كتاب الله /12/ محرماً تسع منها في سورة الأنعام (الآيات 151 ـ 152 ـ 153) مضافاً إليها محارم النكاح وربا الصدقات والأطعمة المحرمة. وهذا يعني أن الحرام عيني ولايقاس عليه، والحلال مطلق، وأن الأصل في الأشياء الحلّية، وأن الحرام هو الإستثناء. ومن هنا كانت مهمة السنة القولية في غير الشعائر الأمر والنهي في حقل الحلال أي تقييد المطلق الذي يحمل الصفة الظرفية وليس التحريم وهذا يبين ذكر الرسول لوحده في الآية (ما أَفاءَ اللّه على رَسولِهِ مِنْ أَهلِ القرى فللهِ وَللرَسُولِ وَلِذي القُربَى وَاليَتامى وَالمساكينِ وابنِ السَبيِلِ كي لا يَكونَ دولة بينَ الأغنياءِ منهم وما آتاكُم الرَسولُ فَخُذوهُ وما نَهاكُم عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر 7)، مع الإتيان والنهي وليس التحريم.
والإتيان يعني من دائرته (أي من عنده) وليس من عند الله، والآية واضحة تماماً حيث أنها تتحدث عن الدولة وعن خطوات إجرائية وعن الرسول كولي أمر (قائد الدولة) وهذه هي الطاعة المنفصلة للرسول عن طاعة الله (يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء 59).
وهذا هو تقييد المطلق لأن المطلق لايمارس اجتماعياً إلا بشكل مقيد، ولايكون إلا في الحلال. وهذه هي مهمة البرلمانات في العالم أجمع. فهي تأمر وتنهى وتنظم في حقل الحلال ولاتملك أن تحرم الحلال لأنها بذلك تكون قد أعطت لنفسها الحق بوضع تشريعات شمولية وأبدية، أو أن تحلل الحرام، ونستطيع القول أن البرلمانات هي الشكل المعاصر للسنة النبوية في غير الشعائر. وهي مايعادل القانون المدني للدولة التي أسسها الرسول. لذا فإننا بحاجة الآن إلى الاستفتاء بدل الفتوى، وإلى البرلمانات بدل مجالس الإفتاء في كل أمور الحياة والتشريع ماعدا الشعائر. أما الشعائر (السنة الفعلية) ففيها الطاعة المتصلة للرسول مع طاعة الله وينطبق عليها قوله تعالى (وَأَطِيعُوا اللّهَ وَالرّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ) (آل عمران 132).

16 - الناس أحرار في التعبير عن آرائهم بجميع الوسائل المتاحة السلمية، فإن صودرت هذه الحرية أو قمعت صارت كلمة الله هي السفلى، وأصبح الجهاد ضرورياً لاستعادة هذه الحرية ولضمان العدالة النسبية في المجتمع. والجهاد لايعني القتال واستعمال العنف حصراً، وإنما القتال واستعمال العنف هي مرحلة من مراحل الجهاد وأحد أشكاله، وهي ليست المرحلة الوحيدة. ونرى أن جهاد الكلمة وقول الحق هما أكثر أنواع الجهاد فعالية في الوقت الحاضر. هذا فيما يتعلق بكلمة الله العليا، أما المقاومة في سبيل الدفاع عن الوطن (عدم الإخراج من الديار) فهي حق مشروع لكل أصحاب الديار كائناً من كان.

17 - لا يجوز أبداً مقاتلة الناس على أساس إدخالهم بالقوة بالملة المحمدية (المؤمنين)، أي لا يجوز مقاتلة الناس على أساس أنهم لا ينتمون إلى المؤمنين إذا كانوا لا يريدون قتال الملة المحمدية لقوله تعالى (يا أَيّها الّذينَ آمَنوا إِذَا ضَرَبْتُمْ في سَبيلِ اللّهِ فَتَبَيّنوا وَلا تَقُولوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمْ السّلام لَستَ مُؤمنَا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيّنُوا إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء 94). أي أنه لايوجد دار إسلام ودار كفر، بل دار إيمان ودار كفر (وَمَا أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف 103) وهذا التقسيم لايبرر العداوة والبغضاء والقتال (وَلَوْ شَاءَ رَبّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس 99).

18 - بما أن المسلمين هم كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً والتزم بالصراط المستقيم، فإن مفهوم الجزية هو مفهوم سياسي بحت، ولا تؤخذ الجزية من غير المسلمين المؤمنين في أي بلد يكون فيه المسلمون المؤمنون هم الأغلبية، وإنما الضرائب هي القاسم المشترك لجميع أفراد المجتمع. لذا فإن بيت المال هو بيت مال المسلمين، وليس بيت مال المؤمنين. والمؤمنون هم جزء من المسلمين وليسوا كل المسلمين. وبالتالي فإن مفهوم الجزية هو مفهوم سياسي إجرائي تاريخي.

19 - لكل الناس الحق في محاكمة عادلة: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَين النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ..) (النساء 58).

20 - الإبداع المادي والفكري مصان في المجتمع الإسلامي: (وَلَا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (هود 85).

21 - العمل والجد والكسب والتوفير أمور مصانة لكل إنسان لأن الأعمال والأرزاق غير مكتوبة سلفاً على أحد. فالأعمال مخلوقة موضوعياً، والإنسان له حرية المناورة والاختيار (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات 96). والأرزاق مخلوقة موضوعياً وتدخل في العمل الإنساني والإرادة الإنسانية الواعية بطلبها (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ) (يس 35). (وَقَدّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَوَاءً لِلسّائِلِينَ) (فصلت 10).

22 - الدولة عبارة عن عقد بين المواطنين والسلطة ينظمه الدستور، ومبدأ تداول السلطة من أساسيات الديموقراطية، فإن أخلت الدولة بشروط العقد، تم حجب الثقة والسلطة عنها: (يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة 1).

23 - المرأة صنو الرجل في الخلق والمسؤولية والعمل والتوفير والكسب والقوامة والإرث، فالله سبحانه سوى بين الذكور والإناث حتى في الإرث بقوله تعالى:
- (لِلرّجَالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (النساء 33) وكما هو معلوم فالنصيب للمعلوم المقدر والحظ للمجهول.
- (يُوصِيكُمْ اللّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ) (النساء11).
- (وَأَنّهُ خَلَقَ الزّوْجَيْنِ الذّكَرَ وَالْأُنْثَى) (النجم 45).
- (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنثَى...) (النحل 97).
- (فَالصَالِحاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ...) (النساء 34).
- (وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصّلْحُ خَيْرٌ..) (النساء 128).

24 - حرية الضمير (حرية قول الحق بدون خوف) مكفولة لكل إنسان كائناً من كان. (يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَى وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة 8).
(يَا أَيّهَا الّذينَ آمَنوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسطِ شُهَدَاء للّهِ وَلَوْ على أَنفُسِكُمْ أو الوالِدَيْنِ والأَقْرَبينَ إنْ يَكُنْ غَنِيّاً أو فَقيراً فاللّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتّبِعُوا الهَوى أن تَعدِلُوا وإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء 135)

إن للعمل السياسي ميثاقاً، شأنه شأن المواثيق الأخرى، ولا يخرج أبداً عن المنطلق الأساسي المتمثل بميثاق الإسلام، ويقوم على عمود واحد ولا ثاني له هو حرية الناس في الاختيار باعتبارهم عباداً لله. وعلى كل من يعمل في الحقل السياسي والوطني أن يلتزم بهذا الميثاق ويعلنه:
1 - كل الناس أحرار فيما يعتنقونه من معتقدات وآراء سياسية، ولامحل للعنف والاغتيالات السياسية، خاصة مع من يختلفون معه في المعتقد والرأي السياسي.
2 - التعددية الحزبية ضرورة أساسية تضمن الرقابة على السلطة والدولة، وحرية تشكيل الأحزاب والنقابات والجمعيات والنوادي والمنتديات، وحرية إصدار الصحف والمجلات والنشرات حق أساسي لكل مواطن، على أن يعلن كل منها علناً عن برنامج عمله وغاياته بالتفصيل.
3 - الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحكم هي الانتخابات ومبدأ تداول السلطة.
4 - المعارضة، بوجود حرية التعبير والتعددية الحزبية، هي البنية الأساسية في العمل السياسي، وهي التعبير الأمثل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولايقوم العمل السياسي بدونها. فإذا استلم الحكم فرد أو حزب أو ائتلاف وتحققت الأكثرية في السلطة، فلايجوز أن يعني هذا إلغاء المعارضة وقمعها ولو كانت أقلية.
5 - لايحق لأحد فرداً كان أم حزباً أم مؤسسة أم جماعة، أن يدعي لنفسه القيومية والوصاية الفكرية والسياسية على الناس، وأن يوزع الألقاب والتهم على الآخرين دون بينة.

دمشق 25 حزيران 1999
الموافق 12 ربيع الأول 1420
ذكرى مولد الرسول الأعظم (ص)

الدكتور محمد شحرور

الثلاثاء، 29 ديسمبر 2009

الذنب والسيئة والخطيئة




(الذنب والسيئة والخطيئة) وأن (المغفرة والتكفير والصفح) وإن كانت مجموعة مفردات تأتي تحت عنوان عريض، إلا أن بينها، في المجموعة الواحد، فروقات لا يمكن معها اعتبار هذه هذه، وها نحن نبين بعضها.
الفصل الرابع: الذنب والسيئة ثمة مصطلحات ترد في التنزيل الحكيم، يطيب للبعض أن يذهب فيها مذهب قطرب، فيعتبرها دليلاً على اتساع كلام العرب عند الإطناب والإطالة والإطالة في الخطاب. منها: الذنب والسيئة والخطيئة والخطأ والمعصية والفسوق والإفساد وإتيان المنكر. ومنها بالمقابل: المغفرة والتكفير والصفح والعفو.
ولقد وقفنا أمام هذه المصطلحات في قراءتنا المعاصرة للتنزيل، منطلقين من نفي الترادف في مفرداته، مستنكرين أن يكون محلاً لاستعراض العضلات اللغوية. فرأينا أن لقد ورد الذنب، بمختلف اشتقاقاته، في تسعة وثلاثين موضعاً من التنزيل الحكيم، نلاحظ منها ثمانية عشر موضعاً يرتبط فيها الذنب بالمغفرة. ووردت السيئة، بمختلف اشتقاقاتها، في ستين موضعاً من التنزيل الحكيم، نلاحظ منها خمسة عشر موضعاً ترتبط فيها السيئة بالتكفير. ونلاحظ أيضاً أن العكس غير صحيح، فالذنب لم يراد أبداً مقترناً بالتكفير، والسيئة لم ترد أبداً مقترنة بالمغفرة. لا بل رأينا التنزيل يجمع الذنب والمغفرة والسيئة والتكفير في قوله تعالى: (.. ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار) آل عمران 193.
من هذا كله، نمضي إلى القول في الذنب والسيئة، كما فهمناهما في التنزيل الحكيم، ونبدأ بالذنب.

1 - الذنب والمغفرة الذال والنون والباء، أصول ثلاثة: أحدها الجرم، والآخر مؤخر الشيء، والثالث كالحظ والنصيب، فالأول الذنب والجرم: يقال أذنب يذنب، والاسم الذنب، وهو مذنب، والآخر الذنب: وهو مؤخر الدواب، ولذلك سمي الأتباع الذنابى، والمذنب من الرطب ما أرطب بعضه، ويقال للفرس الطويل الذنب: الذنوب، والذناب: عقب كل شيء، والذانب التابع (ابن فارس ج2، ص261).
ونحن نرى أن الذنب ورد في التنزيل الحكيم يحمل المعنيين معاً. فهو عمل يحمل المعصية (القطع)، وله تبعة وذيول. فإذا ارتكب انسان الفاحشة التي حرمها الله، فقد قطع أمراً من أوامر رب العالمين، ولهذا القطع تبعة تقع على مرتكب الفاحشة. ومن هنا نقول إن ارتكاب الفاحشة ذنب. وبما أن الإبتعاد عن الفاحشة أمرم من الله تعالى، ومرتكبها مذنب مع الله، فعصيان أوامر رب العالمين معصية يتبعها ذنب مع الله بالنسبة لمرتكبها.
أما السيئة فقد جاءت من فعل سوأ: فالسين والواو والهمزة هي من باب القبح. نقول رجل أسوأ أي قبيح، وأمرأة سواء أي قبيحة، قال (ص): سوآء ولود خير من حسناء عقيم. لذا سميت السيئة سيئة وسميت النار سوأى لقبح منظرها، كما في قوله تعالى (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى..) الروم 10 (ابن فارس، ج3، ص113).
ونفهم أن الذنب والسيئة علاقة ببعضهما البعض، لكن الذنب قد يكون بدون سيئة، أما السيئة فلا تكون بدون ذنب. فما هو الذنب بدون سيئة؟
إذا أفطر إنسان في رمضان، وهوة قادر على الصيام، فهو لم يسيء إلى أحد بإفطاره هذا، بل عصى الله في أمر وتكليف هو قادر عليه. وبهذا فهو يرتكب ذنباً لا يسيء فيه إلى أحد .. لماذا؟ لأن الله سبحانه يعبد طاعة ومعصية، والانسان يذنب بمعصيته، ولأن الله سبحانه لا يساء ولا يحسن إليه، فهو الغني عن العالمين. وممن هنا لا يمكن اعتبار إفطار رمضان سيئة يرتكبها المفطر القادر على الصيام، بل هي ذنب. ولهذا قال تعالى: (إن أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها ..) الإٍسراء 7.
فالإحسان والإساءة لا تكون إلا من الانسان للانسان، أو من الانسان لكل المخلوقات الأخرى في الطبيعة.
أما الله سبحانه فلا يخضع للاحسان ولا للاساءة، وإنما يعبد طاعة ومعصية. ولهذا، فالذنوب بدون سيئات لا تكون إلا مع الله، ولأنها كذلك فهي قابلة للمغفرة، كما في قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً …) الزمر 53. وقد شرحنا في فصل "العباد والعبيد"، أن لفظة (عبادي) الواردة في الآية تتضمن ك عباد الله، الطائعين منهم والعصاة، والمجرمين والمشركين في حالة توبتهم.
ونفهم في ضوء ذلك، أن الله سبحانه يخبرنا بأن كل الذنوب المرتكبة بحقه قابلة للمغفرة بدليل قوله تعالى (.. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول..) غافر 3. باستثناء ذنب واحد لا يمكن غفرانه هو الشرك، ورد في قوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ..) النساء 48 و116.
وبهذا المفهوم خاطب سبحانه رسوله الكريم قائلاً (إنا فتحنا لك فتحاً مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ..) الفتح 1، 2. وواضح أنه تعالى يغفر سلفاً لرسوله الكريم ما تأخر من ذنبه، أي ما سيقع منها بعد نزول الآية. وواضح أيضاً وهو العادل العدل أنه يعني الذنوب المحصورة بعلاقتها بين الرسول وربه. وواضح أنه لا يعني الإساءات التي للآخرين حقوق فيها. فعندما أساء النبي الكريم لابن مكتوم بإعراضه عنه، نزل الوحي بسورة عبس، وفيها يعاتب سبحانه نبيه على ما فعل. وهذا يقودنا إلى الحالة الثانية، حالة اقتران الذنب بالإساءة.

2 - السيئة والتكفير قلنا إن السيئة تكون بين الإنسان والمخلوقات الأخرى، عاقلة وغير عاقلة، فقد يسيء الإنسان إلى إنسان آخر، وقد يسيء إلى المخلوقات الأخرى في الطبيعة (تعذيب البهائم، قطع الغابات، تلويث المياه ..)، أما أن يسيء الإنسان إلى الله، فهذا محال.
فإذا غش زيد عمرواً، فقد أساء إليه، وارتكب بحقه ذنباً لا يزول إلا بإصلاح آثار الإساءة، وإذا أراد الله أن يغف لزيد ذنبه هذا، فلا بد من إرضاء عمرو وتعويضه عما لحقه من الإساءة الواقعة عليه. ومن هنا نفهم معنى التكفير الذي ارتبط في التنزيل بالسيئة والسيئات.
فالتكفير من كفر، هو التغطية مع سابق علم، يقابلها في الإنجليزية cover. أما التغطية فنفهمها بالمثال التالي:
إذا أراد امرؤ استيراد سيارات من اليابان، فأول ما يفعله بعد الإتفاق مع الشركة الصانعة على المواصفات والعدد وجدول التسليم، هو أن يفتح اعتماداً لدى المصرف، الذي يعلم الشركة بذلك، فتقوم بإرسال السيارات المطلوبة، وتذهب إلى المصرف لتقبض حقها.
ونفهم أن المصرف أعطى المشتري تغطية cover، وكفله أمام الشركة الصانعة، وتعهد بتسليم حقوق الشركة عنه. وهذا هو بالضبط معنى قوله تعالى (.. يكفر عنكم سيئاتكم..). فلكي يغفر سبحانه ذنوبكم، يقوم بتغطية وتسديد حقوق الآخرين عنكم لإرضائهم. ولكن هذه التغطية والتعهد بالتسديد، لا يقوم بها أي مصرف في العالم، ما لم للمشتري حساب مفتوح لديه، وما لم تكن سمعة المشتري المالية لدى المصرف طيبة. وكذلك الأمر في تكفير السيئات.
فلكي يكفر الله تعالى سيئات الإنسان، ويتعهد بتسديد ما عليه من حقوق للغير، يجب أن يكون لهذا الإنسان حساب مفتوح عند الله تعالى، وأن يكون له اسم فيه. ولكي يكون له حساب مفتوح واسم في المصرف الإلهي، ولله المثل الأعلى، يجب أن يحصل على طلب تسجيل، أو تذكرة دخول، هذا الطلب وهذه التذكرة هي الإيمان بالله واليوم الآخر. بعد ذلك كله يستطيع صاحب المصرف ومالكه أن يكفر السيئات، ويغطيها من الحساب المفتوح لديه.
أما الذين قطعوا كل صلة لهم بالله، واختاروا بملء إرادتهم البقاء خارج سجلات هذا المصرف وحساباته، فهم المجرمون القاطعون لصلاتهم بالله، الذين لا حاجة حتى لسؤالهم عن ذنوبهم (لمزيد من التفصيل انظر فصل الإيمان والإسلام).
هنا يتضح لنا بجلاء مفهوم تكفير السيئات. فالإنسان الذي يأمل بأن تكفر عنه سيئاته عليه أن يحسن وأن يعمل صالحاً (.. إن الحسنات يذهبن السيئات ..) هود 114. والمسلم الذي يضيف إلى إسلامه الإيمان، وينتقل إلى الإيمان بعد إتمام الإسلام ويشهد أن محمداً رسول الله، وهي رأس الإيمان، سيكفر تعالى عنه سيئاته ويغطيها تجاه الآخرين ويتعهد أن يسدد لهم حقوقهم ويرضيهم. بدليل قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم) محمد 2.
وهكذا نرى أن مقولة "الإسلام يجب ما قبله" غير دقيقة والأصح أن نقول أن "الإيمان ما قبله" لأن الإسلام بدأ بنوح وختم بمحمد (ص). وكذلك غفران الذنوب بعد الإيمان، فإن الذنوب السابقة ستغفر أيضاً بدليل قوله تعالى (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم) الصف 11، 12.
ثم يأتي بعد ذلك كرم الكريم الواحد، وتأتي رحمة الرحيم الأحد، ليبشر الانسان بأن أصغر عمل صالح يعمله، سيحتسبه له ربه مساوياً لأحسن ما عمل في حياته، يكفر له به أسوأ ما عمل في حياته. فالله سبحانه يبشر الذين يجيئون بالصدق، ويجهدون في برهان وإظهار مصداقية كتاب الله بأنهم من المتقين وأنهم من المحسنين، كما في قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشاءون عند ربهم، ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون) الزمر 33-35.
وهكذا نفهم تماماً أن من يسيء للآخرين يصبح مذنباً بحقهم، ولهذا قال موسى لربه (ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون) الشعراء 14. ولهذا أيضاً يأتي أول سؤال يسأله القاضي للمتهم أمامه: هل تقر بذنبك؟ تماماً مثل يوم القيامة، حين لا يدخل أحد جهنم إلا بعد اعترافه بذنبه، الذي ورد بقوله تعالى ( فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير) الملك 11. وهكذا نرى أن السيئة يتبعها الذنب، وتقابلها الحسنة، وفي هذا قال تعالى (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ..) آل عمران 120. ونرى أن ميزان الحسنات والسيئات عند الله غير متساو، فهو يجزي الحسنة بعشر أمثالها، ويجزي السيئة بمثلها، كما في قوله تعالى (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلهم وهم لا يظلمون) الأنعام 160.
وقوله تعالى (من جاء بالحسنة فله خير منها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون) القصص 84. وقوله تعالى (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون * ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) النمل 89، 90. وقوله تعالى (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون) القصص 54. وأكد تعالى أن قانون (لحسنات يذهب السيئات) قانون مفتوح أمام الناس إلى أن تقوم الساعة، بقوله سبحانه (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن الحسنات يذهب السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين * واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) هود 114، 115.
نستطيع بعد هذا كله أن نضع للحسنات والسيئات والذنوب المخطط التالي:
1- الشرك بالله ----> ذنب فقط ليس فيه سيئة لأن الله لا يساء ولا يحسن إليه.
[Photo]
هذه الحالة، شرحها التنزيل الحكيم في خبر يوسف مع امرأة العزيز، فقد اشترى عزيز مصر يوسف وآواه في بيته، بقوله تعالى (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ..) يوسف 21. ولكن امرأة العزيز وقعت في غرام يوسف: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، قد شغفها حباً ..) يوسف 30. إلا أن الله صرف عن يوسف السوء والفحشاء، حين كاد أن يقع فيها لولا أن رأى برهان ربه فهرب، قال تعالى: (.. كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، إن من عبادنا المخلصين) يوسف 24.
لم تكن الفحشاء، كزنا وممارسة للجنس، قد حرمت شرعاً إذ نزل تحريمها أول مرة على موسى، بعد زمن يوسف، وكانت تحكمها الأعراف كظاهرة. وأراد سبحانه أن يصرف عن نبيه الفحشاء، فما هو السوء الذي أراد سبحانه أن يصرفه عنه قبل الفحشاء؟
إنه السوء الذي أشارت إليه امرأة العزيز نفسها، زاعمة أن يوسف أرادها به (.. قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم) يوسف 25. إنه السوء الأكبر من الفاحشة، إنه الإسٍاءة إلى الرجل الذي كرم مثواه وأحسن إليه في بيته وأئتمنه على أهله.
لقد صرف الله تعالى السوء والفحشاء عن نبيه، لكن امرأة العزيز المطعونة في كرامتها زعمت أنه هو الذي أراد بها سوءاً، واتهمت يوسف بأنه راودها عن نفسها وهاجمها، فأذنبت بحق يوسف لاتهامها له بالباطل. هنا نفهم معنى قوله تعالى (يوسف أعرض عن هذا، واستغفري لذنبك، إنك كنت من الخاطئين) يوسف 29. ونفهم أن الخطيئة هي ارتكاب الذنب عن عمد وسابق إًصرار، وليس عن خطأ غير مقصود، ويذكرنا هنا هذا افهم للخطيئة بآياته تعالى:
- (بلى من سكب سيئة وأحاطت به خطيئة فأولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون) البقرة 81.
- (ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً) النساء 112. وهذا ما فعلته امرأة العزيز تماماً.
وبما أن إخوة يوسف كادوا له عن عمد وسابق إصرار، وكانوا يعملون ما يفعلون فقد قالوا:
- (قالوا تالله لقد آثرك علينا وإن كنا لخاطئين) يوسف 91.
- (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) يوسف 97.
ونلاحظ كيف أتبعوا قولهم (ذنوبنا) بقولهم (خاطئين)، أي أنهم أساءوا ليوسف عن سابق إصرار ووعي، فأذنبوا وكانوا خاطئين. فالذين يرتكب ذنباً وسيئة عن سابق إصرار ثم لا يصلح ولا يعترف ولا يتوب، له جزاؤه كما في قوله تعالى:
- (ولا طعام إلا غسلين * لا يأكله إلا الخاطئون) الحخاقة 36، 37.
ومثل ذلك قوله معن قوم نوح، عاندوه، وكذبوه وجادلوه عن سابق إصرار وترصد:
- (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً ..) نوح 25.
أما الخطأ غير المقصود، بمعنى الإساءة غير المتعمدة، فقد جاء في قوله تعالى:
- (.. وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ..) الأحزاب 5.
- (.. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ..) البقرة 286.
- (وما كان لمؤمن بأن يقتل مؤمناً إلا خطأ .) النساء 92.
أما مفهوم الخطايا فقد ورد أيضاً في التنزيل الحكيم بقوله تعالى:
- (.. وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ..) البقرة 58.
تماماً كما ورد في مصطلح الخطيئات في قوله تعالى:
- (.. وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطيئاتكم) الأعراف 161.
قلنا إن الخطيئات هي الذنوب والسيئات عن سابق إصرار ومعرفة من قبل مرتكبها. أما الخطايا فهي الذنوب بحق الله والسيئات بحق الناس عن جهل. وقد ورد بهذا المعنى في خبر سحرة فرعون، إذ آمنوا بألوهية فرعون وربوبيته طعماً بمكافأته، لكنهم لما واجهوا موسى وشاهدوا ما شاهدوا، عرفوا أنهم على باطل وأن موسى على حق، فآمنوا برب موسى وهارون قائلين:
- (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ..) طه 73.
- (إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين) الشعراء 51.
- (.. وما هم بحاملين من خطايهم من شيء ..) العنكبوت 12.
وهكذا نفهم الفرق بين (نغفر لكم خطيئاتكم) و(نغفر لكم خطاياكم). وهذا يتوافق مع قوله تعالى (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون) البقرة 81. ومع قوله تعالى (.. أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم) الأنعام 54. ومع قوله تعالى (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ..) النساء 18.
هنا علينا أن نميز بين الخطأ في قوله تعالى (.. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وبين الخطأ في قوله تعالى (.. إن قتلهم كان خطأً كبيرا). فالخطأ ارتكاب عمل غير مقصود نهائياً كالقتل الخطأ، أي الخطأ المادي. أما الخطأ فهو في القرار. أي عندما يقتل الوالدان ولدهما، فهما يعلمان ما يفعلان، وهذا لا يدخل في مفهوم القتل الخطأ، ولقد سامح الله وعفا عن الخطأ لكنه لم يسامح ولم يعف عن الخطأ.
وهكذا يتبين لنا الفرق بين الخطأ-الخطأ والخطيئات- الخطايا. ننتقل الآن إلى قوله تعالى عن قوم لوط:
- (وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات ..) هود 78.
ونتذكر أنه وصفهم بالمجرمين في قوله تعالى:
- (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين) الحجر 58، 59.
فأين ظهر إجرام قوم لوط؟ وما هي السيئات التي عملوها؟
للجواب على هذا، نقرأ قوله تعالى:
- (ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر، فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) العنكبوت 28، 29.
لقد ظهر إجرام قوم لوط في تكذيبهم بالله وباليوم الآخر وبالبعث وبالثواب وبالعقاب، وذلك في خاتمة الآية 29. أما السيئات فهي ثلاث:
1 - اللواط: وهو ذنب فيه إساءة للعلاقات الجنسية (إنكم لتأتون الرجال).
2 - قطع السبيل: وهو ذنب فيه إساءة لبقاء النوع البشري، والسبيل هنا سبيل النسل، فهم يقطعونه بالإبتعاد عن النساء.
3 - المجاهرة بالمنكر: وهو ذنب فيه إساءة للعلاقات الاجتماعية والانسانية، فهم يأتون المنكر في النوادي وأماكن الاجتماعات العامة.
وننتقل بعدها لنلقي نظرة على تعاليم الإسلام، لنرى أين السيئات، وأين الذنوب.
1 - ألا تشركوا به شيئاً: فالشرك ذنب ليس فيه إٍساءة لأحد، حتى ولا لله، لكنه ذنب غير قابل للمغفرة في حال الإصرار عليه.
2 - وبالوالدين إحساناً: عقوق الوالدين وعدم الإحسان إليهما ذنب فيه إساءة لهما، لكنه قابل للاصلاح والمغفرة والتكفير.
3 - ولا تقتلوا أولادكم: قتل الولد من إملاق، ذنب + سيئة قابل للتكفير والمغفرة.
4 - ولا تقربوا الفواحش: الفاحشة العلنية ذنب مقصود (خطيئة) + سيئة بحق المجتمع، أما غير العلنية فهي ذنب مع الله فقط ليس فيها إساءة لأحد بل تمت برضا الطرفين.
5 - ولا تقتلوا النفس: فقتل النفس بغير حق إن كان عمداً، فهو ذنب وسيئة غير قابل للمغفرة والتكفير. أما إن كان خطأً فله حكم آخر.
6 - ولا تقربوا مال اليتيم: أكل مال اليتيم ذنب + سيئة قابل للمغفرة والتكفير.
7 - وأوفوا الكيل والميزان: الغش بالمواصفات إطلاقاً ذنب + سيئة قابل للمغفرة والتكفير.
8 - وإذا قلتم فاعدلوا: فالزيغ عن العدل في كل شيء بداعي الهوى أو العصبية والقربى ذنب + سيئة قابل للتكفير والمغفرة.
9 - وبعد الله أوفوا: للحنث بالإيمان وبالعهود جانبان، جانب لا يتعداه الحانث إلى غيره فهو ذنب فقط قابل للمغفرة، وجانب يتعداه إلى غيره كيمين المهنة أو القضاء، وهذا ذنب + سيئة قابل للمغفرة والتكفير.
10 - ذلكم وصاكم به: إن عدم الأخذ بما سبق مجتمعاً وترك وصية الله به ووعظه لنا ذنب، يضاف إلى ذنب وسيئة الجزء المتروك.
ونرى أن الكبائر هي مخالفة هذه الوصايا (الأركان) وعلى رأسها الشرك.
وهكذا نفهم قوله تعالى:
- (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ..) النمل 90.
- (.. ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار) الرعد 22.
- (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ..) غافر 40.
- (وجزاء سيئة سيئة مثلها) الشورى 40.
- (.. إن الحسنات يذهب السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين) هود 114.
أما تكاليف الإيمان فهي ذنوب بحق الله فقط، قابلة للمغفرة مع التوبة النصوحة، كترك الصلاة وإفطار رمضان وعدم الحج مع الاستطاعة. وفي بعضها سيئات إضافة إلى كونها ذنوب، كالشورى والقتال في سبيل الحرية ورفع الظلم. وهذه أيضاً قابلة للتكفير والمغفرة.

3 - الحسنات يذهبن السيئات لقد لاحظنا في آيات السيئات أن الحسنات تذهب بها، ولاحظنا أن الإحسان يأتي بعد الإسلام لله مباشرة في قوله تعالى:
- (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ..) البقرة 112.
فما هو الإحسان وكيف نفهم قوله تعالى (وهو محسن)؟
الإحسان ضد الإساءة، فهو في علاقة جدلية معها، والمطلوب من الإنسان في الحياة الدنيا، تغليب الإحسان على الإساءة. والإحسان يكون اللنفس، ويكون للغير من المخلوقات، لكنه كما أسلفنا قبلاً، لا يكون لله، فهو أعز وأكبر وأعظم وأكمل من أن يحسن أو يساء إليه.
إن علينا أن نتعامل مع كل عناصر الوجود الأخرى، على أساس الإحسان لا الإساءة. إلا أن غموض مصطلح الاحسان (وهو محسن) كان نقطة المقتل عند العرب المؤمنين في تطورهم التاريخي.
علينا أن نحسن للناس كل الناس، زوجاً وولداً وجاراً ووالداً ووالدةً كما في قوله تعالى (.. وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم ..) النساء 36.
وعلينا أن نتبع بالسيئة الحسنة لتذهب بها، وأن ننطلق في تقييم الآخرين من زاوية إحسانهم ونفعهم وعملهم الصالح، فتقييمنا للمرأة لا يجوز أن ينطلق من مبدأ (سافرة ومحجبة)، بل من مبدأ إحسانهم وعملها الصالح ونفعها في المجتمع.
وعلينا أن نحسن في العمل. فهذا النوع من الإحسان أهم نقطة يغفلها العرب المؤمنون اليوم، ويهملونها إهمالاً شبه كامل. فإذا سأل سائل: فلماذا هذه المجلدات والأسفار في الطهارة والنجاسة، ومفسدات الوضوء والصوم، حتى اقتربنا فيها من الوسواس، رغم أنها بسيطة جاءت لابن العشر سنوات؟ أقول:
لقد ظهر الفقه بعد أن ترسخ الحكم الاستبدادي وغدا حقيقة قائمة، فلم يتدخل الفقه في شؤون السلطة، بل انصرف إلى التوسع في ما لا يهم السلطة. ومنه الاستفاضة والتوسع في فقه الشعائر، من وضوء وغسل وصلاة وصوم وحج. فذهبوا فيها مذهباً جعل من العسير معه تطبيقاً والالتزام بها، علماً أن الالتزام بها لا يزيد من الحسنات، وعدم لزوم ما لا يلزم فيها لا يزيد من السيئات، ولو أنهم أفاضوا في شرح الإحسان بالعمل، كما أفاضوا فيما ضيع وقت الناس بأمور لا تفيدهم، لما سبقنا على سلم الحضارة أحد في الدنيا.
فالطبيب مطالب بالإحسان في عمله، وكذلك المحامي والمدرس والعامل والمزارع، وعلينا أن نفتح في الفقه موضوعاً جديداً تحت عنوان "فقه الإحسان في العمل" نتوسع فيه بالشرح والتفصيل، ونربطه مع الاتقان من جهة، ومع الوفاء بمواعيد الانجاز من جهة أخرى، ونقسمه إلى عناوين فرعية نستفيض في كل منها مثل:
1 - الإحسان إلى المكان: ويتجلى في نظافة وترتيب مكان العمل، ومكان الإقامة، وبالتالي الحارة والشارع والمدينة. فلا يكفي –كما اكتفى السادة الفقهاء- بأن نضع آلاف الصفحات والكتب، لتعليم الانسان كيف يتطهر ويستنجي، دون أن نشي بكلمة واحدة إلى: أين يضع هذا الانسان فضلاته، وكيف يصرفها ليحافظ على نظافة وطهارة المكان. ومثال على ما نقول دورات المياه العامة في البلاد الإسلامية، وبخاصة الملحق منها بالمساجد.
2 - الإحسان إلى الوطن: ويتجلى في الغيرة على الوطن الأم، ومحبته وسمعته أمام الأجانب، وعلى صناعته وزراعته وحدوده، والتصدي لمن يعتدي عليها.
3 - الإحسان إلى الحيوان: وذلك بمعاملتها برفق، وعدم الإساءة إليها، حتى الذبيحة علينا أن نحسن إليها بذبحها بسكين حادة، بالرفق بالحيوان يدخل تحت بند (وهو محسن).
4 - الإحسان إلى النبات: وذلك برعاية الأشجار والغابات وعدم إبادتها لأغراض التوسع السكني، والمحافظة على نظافتها ونظافة المياه الجارية التي تشرب منها.
5 - الإحسان إلى الطبيعة بشكل عام: وهو ما انتهت إليه الانسانية اليوم في جميع أقطار المعمورة، حيث انصبت الاهتمامات على التلوث بمختلف أشكاله وأنواعه، سواء منه ما يتعلق بالماء أو بالهواء، أو بالأرض. ومكافحة التلوث تدخل حتماً تحت باب (وهو محسن).
6 - الإحسان إلى النفس: وهو قسمان، قسم يختص بالجسد، أي بالمحافظة على الصحة، والتزام قواعد الطب الوقائي، والعلاج والرعاية في حال المرض، والعناية بالهندام واللباس وقص الشعر والأظافر، مما يجعل الانسان مقبولاً اجتماعياً.
وقسم يختص بالنفس كنفس، وهو التقوى الفردية، وتكون بإقامة الشعائر (صلاة، صوم، زكاة، حج)، وتكون في الطاعات التي تكفر السيئات، وتزيد من رصيد الإنسان في مصرف ب العالمين.
هذه كما قلنا أمثلة على الإحسان، الذي أوجزه تعالى بقوله (وهو محسن)، والذي يدخل فيه كل أنواع النشاط الدنيوي، والتزامنا بهذا الإحسان في النشاطات الدنيوية لا يعني أبداً أننا نسينا الآخرة، فالدنيا مزرعة الآخرة، ولولا الدنيا لما كانت الآخرة، ولما انتصب ميزان، ولما قام حساب، وحق الثواب والعقاب. فإذا فهمنا هذا صار للحياة طعم ومعنى، وأصبح بإمكاننا أن نشارك في صنع الحضارة الإنسانية، وفي صنع التاريخ.
ننتقل الآن إلى قوله تعالى:
- (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 112.
- (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً، واتخذ لله إبراهيم خليلاً) النساء 125.
ونلاحظ أن ما ورد في الآيتين جاء بعد قوله تعالى (وهو محسن). ونفهم من آية البقرة أن الأجر في الآخرة مرتبط بالإحسان في الدنيا، وأن الدنيا فعلاً مزرعة للآخرة، نزرع فيها إحساناً، فنحصده عند ربنا أجراً. ولما كان تسجيل الحسنات والأجر عند الله فردياً، فقد قال بصيغة المفرد: (فله أجره عند ربه)، أما عندما قال بصيغة الجمع (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) فهي لجميع المحسنين بالآخرة، وأن الإحسان في الدنيا لا يعني فقدان الآخرة وبيعها.
يقول تعالى في آية النساء (ممن أسلم وجهه لله)، ونفهم أن أي دين مهما كان اسمه وعنوانه يسلم الإنسان فيه وجهه لله + وهو محسن، فهو دين مقبول. ولكن كيف ندخل قانون التطور وجدلية الفرد والمجتمعات الإنسانية في قوله تعالى (وهو محسن)؟ إننا نجد ذلك واضحاً في بداية الآية (ومن أحسن ديناً) وربط ذلك مع نهاية الآية بقوله (واتبع ملة إبراهيم حنيفاً). مما نفهم معه أن الإحسان مرتبط بالحنفية التي تتضمنها ملة إبراهيم. فهو لم يقل (دين إبراهيم) بل قال (ملة إبراهيم)، لأن الدين يختلف عن الملة. فالدين هو ما دان به الإنسان من أحكام مدنية وأخلاقية، تتجلى بالإحسان انعكاساً على الفرد والمجتمع، وأنه في التنزيل الحكيم لا يوجد إلا دين واحد هو الإسلام من نوح إلى محمد (ص).
أما الملة، فهي المبدأ الذي تقوم عليه هذه الأحكام، وهو مبدأ الحنفية الذي تم شرحه تفصيلاً في كتابي الأول، ويعكس التطور في الأحكام والتطور في المجتمعات. فقد أعطانا تعالى الثابت (الصراط المستقيم والوصايا) وترك لنا الحنفية بالتطور والتغير، وتجلى ذلك في ا لرسالة المحمدية بالحدود.
وما تعنيه الحنفية في مجال الإحسان، هو أن ثمة أعمالاً حسنة ولى زمانها، وأن ثمة أعمالاً حسنة جاء بها التطور لم تكن موجودة سابقاً. وهناك أعمال حسنة ستولد في المستقبل. وعلينا أن نجعل من الحنفية ملتنا، ونتبع في ذلك ملة إبراهيم، فقد أعطانا تعالى مبادئ الإحسان، بحدوده وأسسه، وترك ظهوره وتجلياته للحنفية، ولقوانين التطور والجدلية بين الحسنة والسيئة.
إلا أن هذه التجليات وظهورات هذا الجدل تتغير من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر.
فالإحسان في الإنتاج، مثلاً، هو التقيد بالمواصفات الإنتاجية، والمواصفات الإنتاجية لا تخرج عن كونها نسب وزنية ثقيلة، أو وزنية بعدية، ينطبق عليها قوله تعالى (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) الرحمن 9، إلا أن ثمة مواصفات أخرى للإنتاج تتغير وتتطور مع التقدم العلمي والتكنولوجي، فمواصفات السيارة الحسنة في العقد الأخير من القرن العشرين، تختلف عن مواصفات السيارة الحسنة في العقد الثالث والرابع من القرن نفسه.
ونفهم أننا لو طبقنا المواصفات القديمة على سيارات اليوم لما كنا محسنين، ولما شملنا قوله تعالى (وهو محسن)، لأن هذا القول كما قلنا يرتبط بحنفية ملة إبراهيم التي تراعي تطور وتغير مفهوم الإحسان بتغير الزمان والمكان، ونرى أن هذا المفهوم للإحسان له علاقة مباشرة بمصطلح اللهو والتفاخر والتكاثر الوارد في بنود الحياة الدنيا، والذي تم شرحه في فصل العباد والعبيد.
بهذا فقط نفهم لماذا أتبع سبحانه حديثه عن الحنفية في الآية بقوله: (.. واتخذ الله إبراهيم خليلاً)، ولماذا نال إبراهيم اسم خليل الرحمن، ونفهم أخيراً أن بإمكان كل إنسان أن يتقرب إلى الله ويصبح خليلاً له، إن اتبع حنيفية ملة إبراهيم، في إحسانه إلى نفسه وإلى المخلوقات الأخرى في الوجود، وأن كل شيء حنيف متغير حتى الإحسان نفسه.
ثمة مثال آخر عن الحنيفية في الإحسان، نراها في شروط العمل. فقد اختلفت معايير العمل وشروطه وأجوره وساعاته اليومية في وقتنا الحاضر، عما كانت عليه في القرن الماضي. فرب العمل الذي شغل عماله 12 ساعة في الماضي، كان محسناً، لأن ساعات العمل لم تكن محددة آنئذ. بينما رب العمل الذي ينشغل عماله 10 ساعات، إنسان مسيء غير محسن، لأن ساات العمل تحددت اليوم بـ 6 أو 8 ساعات، ولأنه ببساطة لم يلتزم الحنيفية في الإحسان.
لقد نصت آيتا البقرة والنساء على الإنسان الذي يسلم وجهه لله وهو محسن شرط التزام الحنيفية في الإحسان. فانظر معي كيف ربط سبحانه ذلك كله معاً، ووصفه بالعروة الوثقى التي يفلح من يستمسك بها، في قوله تعالى (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى، وإلى الله عاقبة الأمور) لقمان 22.
نخلص بعد هذا إلى القول بأن أهم تحول يجب علينا نحن العرب المؤمنين أن نقوم ب، هو التحول نحو فقه الإحسان في كل شيء، وأن نتوسع فيه منطلقين من أن الإحسان الحنفي مرتبط بالإيمان بالإحسان بالله واليوم الآخر، ومن أنه جزء لا يتجزأ من الحياة العملية الدنيوية، الذي سيأتي ثماره أجراً في اليوم الآخر. وأن هذا هو الطريق الذي بدونه سنبقى خارج التاريخ، وخارج الحضارة، وخارج الفعل الفاعل في سير الأحداث، وسنبقى أمة مهانة وذليلة، حختى لو أقمنا الصلاة وصمنا رمضان، وحجبنا نساءنا، وأطلنا ذقوننا، كما نلاحظ أن الإحسان الحنيفي بكل أنواعه غي موجود نهائياً في الوعي الجمعي عند العرب المسلمين المؤمنين ويوجد بدلاً عنه فقه الشعائر.
ونحن نرى أن أحسن نظام واقعي توصل إليه الإنسان، تظهر فيه بوضوح جدلية الحسنة والسيئة، وجدلية الاستقامة والحنيفية، وجدلية الثبات والتطور، هو النظام الديمقراطي القائم على التعددية الحزبية، وحرية التعبير، وحرية العقيدة والشعائر. كما نرى أن النظام الاستبدادي هو الذي يقوم على قمع هذه الحريات، وقمع تلك الجدليات، ولهذا فإن أول ظاهرة تستشري في أي نظام من هذا النوع هي ظاهرة الفساد.

4 - شرك التجسيد ذنب لا يغتفر يقول تعالى (.. إن الله يغفر الذنوب جميعاً .) الزمر 53، لكنه يقول (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء 116، ويقول (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف 106. ونفهم نحن أن الذنوب جميعاً قابلة للمغفرة، إلا الشرك فهو ذنب بغير قابل للمغفرة. لكننا لا نستطيع إلا أن نقف أمام آية يوسف 106. التي كأنها توحي بإطلاقها ضمن ما فهمناه من آيتي الزمر والنساء، بأن معظم أهل الأرض سيخلدون في النار، بغض النظر عن إيمانهم وعملهم الصالح، لأن أكثرهم لا يؤمن إلا وهو مشرك.
لقد قادنا هذا إلى البحث في مصطلح الشرك، وإلى تقسيمه في أنواع، أحدها هو الذي لا يغتفر. ورجعنا إلى التنزيل الحكيم، لنجده يتحدث فعلاً عن نوع من أنواع الشرك، وبتعريف دقيق جداً، هو شرك التجسيد، بإعطاء الله بعداً زمانياً ومكانياً مادياً محدداً، وبتحويله إلى شيء، وهو الذي ليس كمثله شيء، تعالى الله عما يصفون، يقول تعالى:
- (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم، وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار) المائدة 72.
- (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا واحد، وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) المائدة 73.
- (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق، إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فآمنوا بالله ورسله، ولا تقولوا ثلاثة، انتهوا خيراً لكم، إنما الله إله واحد، سبحانه أن يكون له ولد ما في السموات وما في الأرض، وكفى بالله وكيلاً) النساء 171.
لقد بدأ تاريخ الإنسان بانفصاله عن المملكة الحيوانية. وبدأ تاريخ التجريد اللغوي بالانتقال من العلاقة الطبيعية بين الصوت والمدلول، إلى العلاقة الإصطلاحية. فكان الإنسان قبلها لا يفهم، بمعنى أن الإدراك الفؤادي المشخص بالحواس مع سمع وبصر كان الأساس في الفهم عند الإنسان وما زال. إلا أن هذا الفهم كان في بداياته بعيداً عن التفكير والعقلنة، أي أن الفؤاد عند قوم هود كالفؤاد عندنا اليوم، لكن مستوى التفكير والعقلنة يختلف.
عندما نظر الإنسان إلى ما حوله من ظواهر طبيعية، كالرعد والبرق والمطر والنجوم والرياح، وربطها بإحساساته الداخلية، كالشبع والجوع واللذة والألم والأمن والخوف، ظهرت الوثينة الطبيعية باعتبار أن ظواهرها آلهة تسيطر على هذه الأحاسيس سلباً وإيجاباً. وجاءت النذر من الملائكة لتصحح هذا المسار عند الإنسان. ثم بدأت النبوات والرسالات عن طريق وحي إلى واحد من الناس هو نوح. وكانت عبادة ظواهر الطبيعة هي السائدة، ولها هامانات (كهنة) لخدمتها وللوساطة بينها وبين الناس.
وكانت هذه بداية التجسيد للمعبودات، الذي هو شرك بالله تعالى. ولهذا نرى أن أول بند في دعوات الأنبياء والرسل هو (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) . (1)
ثم مع تطور المجتمعات الانسانية، تطورت اختصاصات الآلهة، وأخذت لها أسماء مختلفة كالنجوم (المشتري والزهرة) ومع تطور وسائل الانتاج تم تشخيص الآلهة بأشكال مختلفة (إله الحب، إله الخصب، إله القمر، إله الماء، عشتار، حدد، بعل) وصا لهذه الأشكال منحوتات ترمز إليها. أي أن الوثنية تطورت، فجعلت للآلهة أسماء واختصاصات وأشكال منحوتة توضع في معابد لها هامانات (كهنة) وتقدم لها قرابين. هنا نلاحظ كيف تطورت فكرة المشخص في مفهوم الآلهة، فصار التقرب منها تقرباً مادياً عن طريق تقديم الذبائح والقرابين (بهائم، محاصيل، قرابين بشرية)، أي أن مفهوم التقرب من الله بالصوم والصلاة تقرباً مجرداً لم يكن موجوداً البتة.
وهكذا نرى أن الإسلام بدأ بنوح بالتوحيد، وبقي التوحيد مدار دعوات الأنبياء والرسل حتى خاتمهم محمد (ص)، الذي ختم الإسلام. (وقل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد، فهل أنتم مسلمون) الأنبياء 108. ولعل سائلاً يسأل: إذا كان الإسلام قد بدأ بنوح-كما تقول- فلماذا ورد في التنزيل بأن إبراهيم أبو المسلمين؟ نقول: لقد نال إبراهيم هذا اللقب عقب رحلته من الوثنية إلى التوحيد، أي من المشخص إلى المجرد.
فقد بدأ إبراهيم رحلته بالبحث عن الله والتفكير فيه، كما يدلنا عليه قوله تعالى (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين) الأنبياء 51.
1 - بدأ إبراهيم مستنكراً (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة، إني أراك وقومك في ضلال مبين) الأنعام 74. فهو يسأل ويقرر أن عبادة الأصنام ضلال، لكنه لم يكن يدري في تلك المرحلة ما هو الهدى، وأين هو الله المجرد عن الزمان والمكان والتشخيص.
2 - من هذا القرار، قرار أن الأًنام ليست آلهة، وأن اتخاذها ضلال مبين، بدأت رحلة إبراهيم في البحث. فنظر في السماء ليلاً ولفت انتباهه كوكب، كان أكبر وأكثر إشعاعاً من غيره، فظن أنه ربه، لكن ظنه ذهب أدراج الرياح مع اختفاء الكوكب.
3 - ثم رأى القمر، فظنه ربه، لكنه أفل كسابقه فانصرف عنه.
4 - ثم لاحظ أن الشمس أكبر هؤلاء جميعاً، إلا أنها حين غابت، أدرك أنه ما زال في تخبطه وحيرته. لكنه خلال ذلك كله، كتان يعرف بحدسه عم يبحث. كان يشعر أنه يبحث عما هو أكبر من هذه جميعاً، عما هو خارج سلطان الليل والنهار، وفوق ما يراه من ظواهر تغيب وتشرق.
5 - هنا انتهى إبراهيم إلى وحدانية الله غير المشخص ووصل إلى نتائج هامة:
- الله هو خالق السموات والأرض، وهو فوق كل ظواهر الطبيعة.
- الله لا يرى ولا يسمع ولا يلمس، أي لا يمكن تشخيصه.
- كل شيء يتغير ويتحرك متطوراً في الكون، والله وحده الثابت.
هذا كله نلمحه في قول إبراهيم (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين) الأنعام 79. ومن هنا من اقتناع إبراهيم بالحنيفية التي فطر الله السموات والأرض عليها، بسنة التغير والتطور والحركة التي أخضع الله لها الوجود، ببقاء الله وحده ثابتاً لا يتغير ولا يتبدل، ولا يحده زمان ولا مكان، فقد استحق إبراهيم اسم "أبو المسلمين".
ونرى أنه لا يوجد لإبراهيم مكانة خاصة عند كل المسلمين بفروعهم الثلاثة المؤمنين (أتباع محمد "ص") والذين هادوا أتباع موسى عليه السلام والنصارى أتباع عيسى عليه السلام.
وكل فرع من هذه الفروع أطلق التنزيل الحكيم عليه مصطلح ملة كما في قوله تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم..) البقرة 120، فهناك ملة النصارى وملة اليهود وملة المؤمنين، ولكن المؤمنين أتباع محمد (ص) هم صراحة وبدون لبس على ملة إبراهيم ( المسلمين المؤمنين)، لأن الحنيفية واضحة بشكل لا لبس فيه في التنزيل الحكيم (سنة التطور والتغير)، بينما هذا الوضوح غير موجود في كتاب موسى. ومع الأسف أن حالة المسلين المؤمنين الآن، هي أبعد ما يكون عن حنيفية إبراهيم.
ونلاحظ أن إبراهيم استعمل مبدأ الشك في وصوله إلى اليقين، ومبدأ تجربة الخطأ للوصول إلى الصواب. وهذان هما أساس البحث العلمي في العالم حتى اليوم، وبهذا كان إماماً للناس، وليس للمتقين فقط، وإماماً للمسلمين بالتوحيد المجرد، حتى أنه طبق مبدأ التجربة للتحقق من النظرية، حين طلب من الله إحياء الموتى، فتحول بعد التجربة من شاهد على إحياء الموتى (عليم) إلى شهيد على إحياء الموتى (سميع بصير). وبهذا انفرد إبراهيم وحده عن الناس بالتوحيد المجرد والحنيفية، ولهذا قال عنه تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين) النحل 120. ولكن إبراهيم وجد نفسه، وقد وصل إلى الله، أمام مشاكل:
- كيف يتقرب إلى هذا المجرد، خالق السموات والأرض.
- بما أن لكل معبود معبد، فأين بيت هذا الواحد الأحد، وهل له بيت؟
- أين تقدم القرابين لله؟ وما هي القرابين التي يحبها؟
- ما هو اسمه؟
لقد كان ثمة آلهة كثيرة عند الناس لكل منها معبد واسم واختصاص وأتباع وكهنة، وللتمييز فقد سمى الناس هذا الذي يدعو إليه إبراهيم "إله إبراهيم"، لأن فكرة الإلهة المجرد ولفظه كانت بعيدة عن الذهن وغير مفهومة.
هنا نلاحظ كيف استعمل التنزيل الحكيم هذه التسمية بكل دقة في قوله تعالى (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون) البقرة 133. ونلاحظ كيف لم يقولوا "نعبد الله" .. لأن هذا المفهوم المجرد لم يكن واضحاً في الأذهان كما أسلفنا.
ونمضي مع التنزيل الحكيم، لنرى كيف تم حل المشاكل أمام إبراهيم، وكيف جاءه جواب تساؤلاته:
- لقد دل سبحانه خليله إبراهيم على مكان البيت، وأمره بتطهيره للعباد وبرفع قواعده، بقوله تعالى: (وإذا جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125. وبقوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم) البقرة 127. وبقوله تعالى (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين) آل عمران 96.
وتم حل مشكلة التقرب إلى الرب المجرد غير المشخص، والاتصال به والصلة معه بالصلاة، فأول مرة بالتاريخ تقام فيها الصلاة كشعيرة من الشعائر بركوعها وسجودها، كانت في زمن إبراهيم بدلالة البقرة 125، وبدلالة قول إبراهيم لربه (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي، ربنا وتقبل دعاء) إبراهيم 40. هذا فيما يتعلق بالشعائر المجردة (إقامة الصلاة).
أما فيما بتعلق بالشعائر المشخصة، فنلاحظ أن الكعبة بقيت حتى الآن بيتاً لله، بينما اندثرت كل بيوت الآلهة الأخرى، رغم ازدهارها في حينها. وبما أن الطواف حول الكعبة (بيت الله) هو من الشعائر المشخصة، أي عبادة فؤادية بحتة باعتبار أن الكعبة أساساً من جدران وأحجار، فقد قام إبراهيم داعياً (.. فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم ..) إبراهيم 37. وقد قلنا بأن الفؤاد هو الإدراك المشخص.
وبقيت مشكلة الذبائح والقرابين تؤرق إبراهيم، إذ كيف تقدم القرابين، ومن بينها قرابين بشرية، إلى بيوت ومعابد آلهة مزيفة لا تضر ولا تنفع، ولا يقدم مثلها لبيت خالق السموات والأرض؟ وأصبحت شغل إبراهيم الشاغل حتى بدأ يرى في منامه أنه يذبح ابنه اسماعيل ليقدمه قرباناً، على جري العادة في القرابين. ولا بد أنه رأى هذا المنام ذاته أكثر من مرة، بدليل أنه قال لابنه (.. إني أرى في المنام أني أذبحك ..) الصافات 102، ولم يقل "إني رأيت"، كما قال يوسف لأبيه، وقد رأى رؤياه تلك مرة واحدة.
ولا شك أن جواب الابن لأبيه (.. يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين) الصافات 102، فيه إشارة إلى إيمان إسماعيل بإله أبيه من جهة، وإلى إيمانه بأبيه كنبي من جهة ثانية، وإلى بره بأبيه م جهة ثالثة، وإلى قناعته التامة بأن ذبحه قرباناً لله فيه تشريف له ورفع لمقامه، هذه القناعة التي كانت حتى لدى القرابين التي تقدم إلى معابد الآلهة الأخرى.
هنا يجيء الحل من الله سبحانه وتعالى، فيفدي إسماعيل بذبح عظي. وما زالت هذه السنة معمولاً بها في الحج حتى الآن، للدلالة على ما يلي:
1 - إن الله تعالى لا يناله شيء من لحوم ودماء الأضَاحي، إنما هي تعبير منا عن على طاعتنا وحبنا لله، إحياء لذكرى خليله، وتيمناً بما قدم من قربان، أما الذبائح نفسها فينتفع بها وتؤكل.
2 - إن الله لا يريد أية ذبائح أو قرابين بشرية، ومنع مثل ذلك بتاتاً، لأنه شأن من شؤون الآلهة الباطلة.
هنا نفهم تماماً قوله تعالى يصف البيت الحرام (.. ومن داخله آمناً). الذي لا يمكن أن يعني أبداً أن من دخله، كان آمناً من أن يقتله آخرون، فهناك كثيرون قتلوا في المسجد الحرام، والمسجد نفسه سبق أن دك عدة مرات قديماً وحديثاً وكان فيه أناس قتلوا. بل يعني أن من دخله كان آمناً من الذبح والتقديم كقربان.
وهذه الناحية بالذات، ناحية منع تقديم القرابين البشرية بدأت عند إبراهيم، ثم انتشرت في كل أرجاء المعمورة، فقد نرى الآن إنساناً يقتل إنساناً آخر، لكننا لا نرى أبداً أحداً يذبح قرباناً لله تعالى، أو لأي إله آخر. وهكذا نرى رأي العين مصداقية قوله تعالى: (وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم) الصافات 108، 109. كما نرى اليوم في الإسلام بفروعه الثلاثة اليهودية والنصرانية والمؤمنة، وجود الصلاة التي تقام، وفيها ركوع وقراءة وسجود.
لقد غطى التنزيل الحكيم في القصص القرآني سيرة إبراهيم، إلى جانب سير أنبياء آخرين، لكنه خصص تغطية أكبر لسيرة موسى.. فلماذا؟ لأنه في فترة ما بين موسى وإبراهيم، كان إله إبراهيم، وهو رب السموات والأرض، واحداً من آلهة كانت موجودة بالعشرات. وكان أتباع إله إبراهيم قلة، خاضعة للاستبداد والعبودية. هكذا كان الوضع حين بعث موسى، لا شريعة كاملة، ولا مبادئ أخلاقية متكاملة، ولا نظرة شمولية إلى الحياة والكون والانسان.
ولكن عندما بعث الله موسى، تم حل هذه المشكلات:
1 - تم ترسيخ إله إبراهيم في أذهان الناس، فالآيات التسع التي جاء بها موسى هي تعبير عن معركة جرت بين إله إبراهيم وموسى، وبين بقية الآلهة، وتدخل فيها سبحانه مباشرة. أي أن المعجزات التسع التي أوتيها موسى، لم تأت لأن السحر كان شائعاً في ذلك الوقت، وإنما جاءت لتصيح بالناس: أيها الناس، أنا إله إبراهيم وموسى، فأين آلأهتكم؟ أروني ماذا تستطيع أن تفعل لكم. فكان لسان حال معجزات موسى، هو هذا التحدي وهذا الإعلان عن المعركة التي بدأت بقوله تعالى (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ..) الإسراء 101.
2 - بما أن كل الآلهة كانت لا تنطق ولا تسمع، فقد كلم الله موسى، وسمع موسى كلاماً مباشراً من ربه، وهذا كان جديداً على الناس حتى وقت موسى، حيث اعتادوا قبله على المشخص من الملائكة، كما في قوله تعالى:
- (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً ..) هود 69
- (ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعا ..) هود 77.
- (كذبت قوم نوح المرسلين) الشعراء 105.
- (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ..) الأحقاف 21.
ولهذا قال الله لموسى (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ..) الأعراف 144. وذلك ليبين الله لنا أن تطور الإنسانية في ذلك الوقت كان بحاجة إلى هذه الصدمة المباشرة (كلامي) والمعرفة المباشرة (تسع آيات بينات).
حتى أن فرعون ذاته أدرك وصدق بأن إله موسى هو الله وأن كل ما عداه باطل (.. حتى إذا أدركه الغرق قال آمن أنه لا إله الذي آمن به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) يونس 90. وهذا كان محصلة للآيات التسع التي قامت بصدمة كبرى، بدأ بعدها إله إبراهيم وموسى يدخل في وعي الناس، وفي وعي فرعون وسحرته.
3 - لقد تم تحرير بني إسرائيل بعد هذه الآيات التسع. وكان تحريرهم تحصيل حاصل، أي أن الناس التي تعودت العبودية مئات السنين، كانت لا تستطيع تحرير نفسها، والثورة كانت تعني القضاء المبرر عليهم.
4 - بعد تحرير بني إسرائيل بدأت الشريعة تنزل على موسى (الكتاب والفرقان) الشريعة والوصايا العشر في الألواح. إلا أن مشكلة المشخص ما زالت موجودة في أذهان الناس، رغم أنهم اقتنعوا بإله إبراهيم وموسى. ولهذا أراده أن يكون مشخصاً، هنا جاءت النقلة الخطيرة في التشخيص، من تشخيص الآلهة الباطلة إلى تشخيص الإله الحق. صحيح أنهم اقتنعوا تماماً ببطلان كل الآلهة المشخصة، ولكن ألا يمكن لإله إبراهيم وموسى أن يكون مشخصاً؟
إننا نرى ذلك واضحاً في قولهم لموسى (وإذا قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ..) البقرة 55. ونلاحظ كيف آمنوا بالله سبحانه، ولكن أين هو .. وكيف يمكن أن يدرك مشخصاً دون أن يرى جهرة لقد ضغط هذا الطلب على موسى إلى حد أنه طلب هو نفسه من الله أن يراه جهرة، وذلك في قوله تعالى (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك، قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) الأعراف 143.
هناك علم موسى أنه الله، اصطفاه برسالاته، وبكلامه لا أكثر، وكلمة وأوحى إليه من وراء حجاب، أما أن يرى الله جرة، فهذا لا يمكن إلا إذا كان الله شيئاً مشخصاً، تعالى عما يصفون.
ونتذكر ما حدث قبل أن يذهب موسى لميقات ربه، فقد طلب منه قومه أن يشخص لهم الله، كما في قوله تعالى (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين) الأعراف 138-140.
هذا ما كان قبل ذهاب موسى، فماذا حدث بعد ذهابه وغيابه عنهم أربعين ليلة؟
- (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة، وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) الأعراف 142.
في هذا الميقات يعطي الله لموسى الوصايا العشر على الألواح ويوحي إليه من وراء حجاب، ويصطفيه على الناس برسالاته وبكلامه.
- (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء فخذوها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها، سأريكم دار الفاسقين) الأعراف 145.
لقد جاءت الوصايا العشر إلى موسى (الفرقان)، وجاءت إلى محمد (ص) في سورة الأنعام 151-153. وعلى رأسها هنا وهناك التوحيد. ولعل النظرة التي نلقيها على الأسلوب الذي جاءت به هذه الوصية الأولى هنا، والأسلوب الذي جاءت به هناك، تلقي الضوء على ما نريد.
1 - الوصية الأولى (التوحيد) عند موسى (ع): لا تجسدني.
Don’t make image of me
2 - الوصية الأولى عند محمد (ص): لا تشركوا به شيئاً.
إن المحتوى واحد هو التوحيد، لكن الفرق في التعبير، فرق زمني تاريخي يتبع وعي الناس في كل وقت، ففي زمن موسى كان التجسيد مطلباً ملحاً عند الناس وفكرة راسخة في أذهانهم، فجاءت صيغة الأمر بالتوحيد متوافقة مع الوعي التاريخي (لا تجسدني). أما في زمن محمد (ص)، فقد بعد الناس عن التجسيد المباشر، حتى من يعبد الأصنام منهم قال (.. ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ..) الزمر 3. أي أن المشركين زمن محمد (ص) كانوا يعرفون أن الله الواحد هو خالق السموات والأرض، ويعرفون أن الأصنام مجرد واسطة. أما زمن موسى، فكانوا يريدون أن يجعلوا الله مشخصاً. وهنا نلاحظ الفرق الكبير في الوعي التاريخي بين الزمنين.
نعود إلى موسى في الميقات، لنرى ماذا كان يفعل قومه وهو يستلم الألواح وعلى رأسها وصية (لا تجسدني). لقد كانوا فعلاً يجسدون الله. واستطاع السامري أ يضلهم لأنهم حديثوا عهد بالتوحيد، ولأن التجسيد راسخ في أذهانهم للآلهة الباطلة وإله موسى على حد سواء، يقول تعالى:
- (واتخذ قوم موسى من بعده م حليهم عجلاً جسداً له خوار ..) الأعراف 148.
- (وما أعجبك عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى * قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري * فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً، قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً، أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي * قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري * فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي * أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً) طه 83-89.
- (ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم أتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) البقرة 92.
هنا نلاحظ كيف تم الاعتراف بإله موسى، ولكن تبع هذا الاعتراف تجسيد من السامري:
الوصية الأولى: لا تجسدني ---> فأخرج لهم عجلاً جسداً ---> فقالوا هذا إلهكم وإله موسى لقد بقيت فكرة تجسيد الله هذه في أذهان الناس، حتى صارت عند العرب زمن البعثة المحمدية أقل وأخف وطأة.
[Photo]
في الفترة الزمنية الفاصلة بين موسى (ع) ومحمد (ص)، بعث المسيح عيسى (ع)، ليحل بعض ما حرم على بني إسرائيل، وليضع عنهم الإصرار والأغلال، متمماً لرسالة موسى (ع). وليعلمهم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل. فماذا حصل بعد أن رفع الله عبده ورسوله المسيح إليه؟
لقد فصل بولص المسيحية عن اليهودية، مع إبقاء الكتاب المقدس واحداً.
- الكتاب – شريعة موسى (كتوبيم) مع التعديلات وإلغاء الاصر والأغلال.
- الحكمة – الوصايا مضافاً إليها قواعد أخلاقية.
- التوراة – نبوة موسى.
- الانجيل – نبوة عيسى.
بعد أن فصل بولص المسيحية عن اليهودية، وجعلها مستقلة تماماً، بقي الكتاب المقدس يتلى كمصدر لمعلومات خلق الكون (نبيئيم-قصص الأنبياء)، أما الشريعة (كتوبيم) فقد أهملت، وتم أخذ الصايا العشر للعمل بها كمنظومة أخلاقية لا غنى لكل الناس عنها.
ولا بد من التنويه إلى أمرم في توراة موسى (ع) (الموجودة بين أيدينا اليوم) هو أنها خالية من أي ذكر لليوم الآخر، وهو أمر في غاية الخطورة، بينما نجد البعث واليوم الآخر بشكل لا لبس فيه في الانجيل (كما هو بين أيدينا اليوم). وهذا ما جعل اليهود يؤمنون بالحياة الدنيا، ويحرصون عليها تماماً، ويؤمنون بأنهم أحباء الله فيها، وهذا ما تقرؤه في قوله تعالى:
- (قل إن كنت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم، والله عليم بالظالمين * ولتدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا، يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، والله بصير بما يعملون) البقرة 92-96.
هذه النقطة تثير الشكوك الكبيرة حول سلامة العقيدة الحالية عند اليهود بما يخص اليوم الآخر من جهة، وبما يخص اليهود والذين هادوا (كما وردا في التنزيل الحكيم) وهل هما اسمان لمسمى واحد؟
بعد فصل المسيحية عن اليهودية، بدأ البحث جداً بطبيعة المسيح، هل هي إلهية أم بشرية، وهل هي واحدة. وقام بالبحث العديد من المجامع المسكونية التي انعقدت في الفترة الواقعة بين رفع المسيح وولادة محمد (ص) عام 570م.
وبعثته عام 610م(2). فانقسمت الآراء حول طبيعة المسيح:
1 - قسم قال بالطبيعة الواحدة الإلهية للمسيح، وأنه هو الله مجسداً. وهذا من بقايا تجسيد السامري في زمن موسى، فطوروا التجسيد من العجل إلى المسيح.
2 - قسم قال بطبيعتين للمسيح إلهية وبشرية، منهم من غلب الإلهية ومنهم من غلب البشرية.
3 - قسم قال ببشرية المسيح، وأنه عبد الله ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم. وعلى هذا فمريم ليست أم إله. ويبدو أن نصارى الحبشة والأنباط أيام الهجرة الأولى، كانوا ن هذا القسم، بدليل أن النجاشي حين سمع جعفر (رض) يتلو سورة مريم، لم ينكر منها شيئاً، ولم يجد فيها ما يتعارض مع معتقده.
من هذا الانقسام حول طبيعة المسيح نشأت العقائد في الكنائس المسيحية فانقسمت إلى يعاقبة ونساطرة وأقباط آريوسيين وغير ذلك، إلا أن الزخم الذي ساد هو زخم الثالوث المقدس.
بعد هذه المقدمة، نستطيع أن نفهم بكل دقة معنى قوله تعالى في المائدة 72 و 73 وفي النساء 171، ونستطيع أن نفهم أن الشرك كذنب لا يغتفر هو شرك التجسيد الذي يحرم تعالى على أصحابه الجنة.
أ-
- (لقد كفر الذين قالوا إن الله (هو) المسيح ابن مريم ..
- وقال المسيح يا بني إسرائيل ابعدوا الله ربي وربكم ..
- إنه من يشرك بالله ..
- فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار) المائدة 72.
ونلاحظ هنا أن الكافرين يقولون إن الله هو المسيح، وهذا هو التجسيد.
ونلاحظ أن المسيح يدعو هؤلاء إلى عبادة الله (توحيد ألوهية) لأنه ربه وربهم (تنزيه عن الوالدية ربوبية).
ونلاحظ أن المسيح يسمي ذلك كله شركاً يحرم على صاحبه الجنة (لأن التجسيد واضح فيه).
ب-
- (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ..
- وما من إله إلا واحد ..
- وإن لم ينتهوا عما يقولون ..
- ليمسن الذين كفروا (منهم) عذاب أليم) المائدة 73.
ونلاحظ هنا أن الحديث عن التثليث، وليس عن التجسيد، وأن للتنزيل موقفاً أقل شدة لم يأت فيه تحريم الجنة.
فهو هنا يهدد من لا ينتهي بالعذاب الأليم. ونلاحظ أخيراً أنه يقسم المثلثين إلى قسمين، وأن العذاب الأليم سيمس القسم الذي كفر منهم.
وهذا يقودنا إلى النساء 171.
- (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ..
- .. إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ..
- .. فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم ..
- .. إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون ولد ..) النساء 171.
هنا نجد ألطف أنواع الخطاب القرآني الثلاثة، فلا حرمان من الجنة، ولا وعيد بالعذاب، بل أمر إن كان لا يخلو من الحزم، فهو لا يخلو من الاعتدال الهادئ (انتهوا خيراً لكم).
ولعلنا لا ننسى ما تورده السيرة النبوية عن نصارى نجران، حين قدموا على النبي (ص) في المدينة، فسمعوه وأكرمهم، وتركهم على ما هم عليه، وأعطاهم كل ما سألوا، ولم يدخل معهم في أي جدال.
هذا ما يتعلق بالشرك الذي لا يغتفر، وهو شرك التجسيد، أما الشرك الذي قع به كثير من المؤمنين، الوارد في قوله تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف 106. فهو شرك الربوية أو شرك الألوهية أو شرك يقترب أحياناً من التجسيد دون أن يصل إليه. ولقد تحدثت بالتفصيل عن الشرك في "الكتاب والقرآن"، وملخصه أن شرك الألوهية يكمن في جعل جيل الصحابة والفقهاء معصوماً مطلقاً، وجعل ما قالوه شرعاً إسلامياً إلى أن تقوم الساعة.
أما شرك الربوبية فيتجلى في زيارة قبور الأولياء، والتقرب إلى الله عن طريقهم، كما لو أن التقرب منه يحتاج إلى واسطة، أو كما لو أن الله أصم غائب تعالى اله عما يصفون.
وقد يجتمع شرك الألوهية والربوبية في شخص الشيخ أمام المريد، فكلام الشيخ مطلق لا يناقش، والطاعة له مطلقة، والوصول إلى الله لا يكون إلا بواسطته. إضافة إلى أن البعض اقتربوا كثيراً من شرك التجسيد في نظرتهم إلى الرسول الكريم، من خلال الإطروحات التالية:
1 - مكتوب على عرش الرحمن: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
2 - خلق الله الكون من نور محمد.
3 - كل ما قاله وفعله محمد (ص) وحي من الله. أي أنهم جعلوا الوحي وحيين وحي التنزيل الحكيم، ووحي ما يقوله ويفعله محمد (ص).
4 - كل هذا ليثبتوا مقولة "العلماء ورثة الأنبياء"
ولايجاد درع يختبئون وراءه (شرعية الطاعة)، وسيف يشهرونه على رؤوس الناس (شرعية الأوامر)، فكل شيء يريدون أن يجبروا الناس عليه أو يهددوهم به، يجدون له حديثاً يختبئون وراءه، والحديث وحي ثان كما يقولون. والرسول بريء من اضطهاد الآخرين باسمه وإشهار سيوف الطاعة والتخويف عليهم تحت رايته.
كانوا، وما زالوا، إذ لم يجدوا لما يريدون نصاً شرعياً في التنزيل الحكيم، التمسوا واخترعوا له حديثاً أو خبراً في السنة النبوية. حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أنهم إن وجدوا نصاً قرآنياً يعارض ما يقولون، اخترعوا حديثاً يوافقه، زاعمين أن الحديث ينسخ التنزيل، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لقد نظرنا حولنا اليوم، فوجدنا الانسانية أحسن حالاً من وجهة نظر شرك التجسيد. فلقد جاءت البعثة المحمدية، وكان ثمة أصنام تعبد وأوثان تقدس، قضى التوحيد عليها، وأمر الرسول الكريم إن صح، لقرب العهد بعبادة الأصنام، بترك صنع التماثيل والتصاوير، تجنباً لما تحمله من رجس ما زال ماثلاً بشكل أو بآخر في أذهان الناس.
أما اليوم، فمن المضحك أن نأمر الناس مثلاً بإتلاف تمثال أبي الهول في مص، خوفاً من عبادته، أو أن نظن أن الناس في أمريكا تقدم القرابين لتمثال الحيرة زلفى إلى الله. فقد ابتعدت أذهان الناس تماماً عن التشخيص والتجسيد، وانغرس فيها التجريد، واتسعت مداركهم عن الكون وأبعاده، وزادت معارفهم عمقاً في فهم آيات الله تعالى، وأصبحوا بمنأى عن الاختلاط الوثني المشخص، وهذا كله مما تركه لنا إبراهيم أبو المسلمين حين نقلنا من التشخيص إلى التجريد، فسلام على إبراهيم.
ننتقل أخيراً إلى قوله تعالى:
- (لله ما في السموات وما في الأرض، وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، والله على كل شيء قدير) البقرة 284.
- (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) البقرة 286.
ولعل ما دعانا إلى الوقوف عند الآيتين، قوله تعالى في الأولى (فيغفر لمن يشاء) والمغفرة لا تكون إلا للذنوب، وقوله تعالى في الثانية (إن نسينا أو أخطأنا) وقوله في الثانية أيضاً (واغفر لنا) وعلاقة هذا بما نحن فيه من قول في الذنب والخطيئة.
أما ما يذهب إليه القائلون بالنسخ (انظر الناسخ والنسوخ لهبة اله بن سلامة ص 16) من أن قوله تعالى (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) منسوخ من قوله تعالى (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)، وأن الناسخة هذه منسوخة بدورها بقوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) فهو ليس عندنا بشيء، لعدد من الأسباب شرحناها تفصيلاً في كتابنا الثاني "دراسات في الدولة والمجتمع".
منها أن النسخ يستهدف الآية، والمنسوخ هنا جزء من آية، ومنها أن النسخ يكون في آيات الرسالات، وليس في آيات الرسالة الواحدة، ومنها أن النسخ يستهدف الأحكام، والمنسوخ هنا قوانين ونواميس.
ونبدأ بقوله تعالى (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله). ونرى أننا لا يمكن أن نفهمه بدقة إلا في ضوء قوله تعالى:
- قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله، ويعلم ما في السموات وما في الأرض، والله على كل شيء قدير) آل عمران 29.
- (يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون، والله عليم بذات الصدور) التغابن 4.
ونلاحظ في آل عمران قوله (ما في صدوركم)، أي أن الإبداء والإخفاء جاء لما في الصدور. والصدر، كما شرحت في كتابي الأول "الكتاب والقرآن" هو الدماغ، فمركز التفكير هو الرأس مستقر الدماغ، وليس الصدر مستقر الرئتين. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك مباشرة (يعلمه الله)، وأضاف متابعاً (ويعلم ما في السموات وما في الأرض). ونفهم أن مجرد تفكير الانسان بشيء معين، فإن الله يعلمه بنفس اللحظة، تماماً كما يعلم ما في السموات وما في الأرض، ونفهم أن صيغة فعل (يعلم) جاءت تشمل الاستمرارية اللحظية المتحركة دائماً.
كما نلاحظ في الآية أنه لا يوجد حكم بثواب أو بعقاب، على الأفكار التي تخطر في أذهان الناس، وإنما هي للإخبار بأن الإبداء والإخفاء يكون عن الآخرين وليس عن الله الذي (يعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم ذات الصدور). وينتج لدينا: قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدون ---> يعلمه الله + ويعلم ما في السموات وما في الأرض.
يعلم ما في السموات والأرض <--- (ويعلم ما تسرون وما تعلنون ---> والله عليم بذات الصدور)
ونلاحظ أن مصطلح صدوركم والصدور جاء في الآيتين للاخبار عن علم الله به، وليس فيه أمر أو نهي أو ثواب أو عقاب. كما نلاحظ أنه سبحانه ربط معرفة خواطر الانسان وأفكاره بمعرفة ما في السموات والأرض، فجعل من كليهما محلاً للعلم، إذ لا علم بلا محل. مؤكداً أنه عليم بذات الصدور. أي أن التركيبة العضوية للدماغ، التي هي محل صفته الوظيفية كفكر، من صنعه، وأن ما يصدر عنها من صنعه أيضاً، ولهذا ختم الآية بقوله (والله على كل شيء قدير).
لكننا نلاحظ أن آيتي آل عمران والتغابن تذكر الصدر، بينما آية البقرة تذك النفس (ما في أنفسكم). كما نلاحظ أن الآيتين تذكران العلم، بينما آية البقرة تذكر الحساب (يحاسبكم).
لقد بدأ سبحانه آية البقرة بالنص على مقام الربوبية، فملكيته لما في السموات وما في الأرض هي من مقام الربوبية، والحساب أيضاً من مقام الربوبية. أما النفس فقد وردت في التنزيل الحكيم ولها نوعان:
1 - الوجود العضوي الحيوي للانسان كبشر، وذلك في قوله تعالى (كل نفس دائقة الموت). ويخضع للتطور العضوي ( جنين-طفولة-شباب-شيخوخة).
2 - الأنا الانسانية بأفكارها ومشاعرها. وهي ما نطلق عليه اسم النفس التكاملية. وهذه هي التي تشتمل على ما سنحاسب عليه، وفيها جدل النفس الانسانية، وجاءت في قوله تعالى (ونفس وما سواها * فألهما فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) الشمس 7-10.
ونلاحظ أن للنفس في التنزيل الحكيم ثلاثة مقامات:
1 - النفس الأمارة بالسوء: وهي التي غلب فيها الفجور على التقوى.
2 - النفس اللوامة: وهي التي في حالة صراع بين الفجور والتقوى، فإن غلبت التقوى، انتقلت إلى المقام الثالث.
3 - النفس المطمئنة: وهي التي غلبت فيها التقوى على الفجور.
لذا، فإن ذكر النفس فيه مجال عمل وسلوك، وليس مجال تفكير فقط، ولو اقتصر على مجال التفكير لذكر الصدر. وبما أن الثواب والعقاب يكونان للسلوك والعمل، وليس للتفكير، فقد قال (وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه)، أما عن النفس التي تموت وهي محل تضحية فقد قال (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم). فالجهاد هنا هو (الموت).
من هنا فنحن نرى أن آية البقرة 284 تتحدث عن سلوك وعمل انساني واع مقصود، وليس عن أفكار. ونرى أن الثواب والعقاب يقع على السلوك والعمل، وليس على الأفكار. فليس هناك ثواب على الأفكار الحسنة وعقاب على الأفكار السيئة، وإلا دخلنا في متاهة كبيرة وأصبح الحساب مهزلة.
والآية جاءت لتغطي مجالاً في السلوك الانساني لا يستطيع شرع ظاهر أن يغطيه في أي مجتمع وضمن أي نظام إسلامي كان أم غير إسلامي. ونورد هنا مثالين عن الإبداء والإخفاء في السلوك الإنساني الواعي تجاه الغير:
1 - الإخفاء: يريد زيد أن يبيع قطعة أرض يعلم أن مرسوم استملاك سيصدر بشأنها، لكنه يخفي ذلك. فاشتراها عمرو ونقده الثمن وانتقلت الملكية لاسمه، دون أن يعلم بأمر الاستملاك الذي يخفيه زيد. ثم صدر المرسوم .. هنا لا يستطيع عمرو أن يطالب زيداً بشيء. ولا يوجد أي نظام قضائي يلزمه بشيء ويرد الحق إلى عمرو، إذا كانت نفس زيد من نوع الأمارة بالسوء، لكن الآية جاءت لتقول إن الله بالمرصاد (فيعذب من يشاء). أما إذا كانت نفس زيد من نوع النفس اللوامة. وراجع نفسه وندم على ما فعل، وأعاد إلى عمرو حقه، فإن الله (يغفر لمن يشاء).
2 - الإبداع: جاء زيد يسأل عمرواً عن شخص ما، فأبدى له عمرو كل مساوئ هذا الشخص، أو كل محاسنه. مما أدى إلى وقوع ضرر نتيجة هذا الإبداء، ففي هذه الحالة لا يوجد قانون في الدنيا، ولا نظام قضائي في العالم، يستطيع أن يعوض زيداً عما لحقه من ضرر. لكن الآية جاءت لتؤكد أن الله بالمرصاد (فيعذب من يشاء).
وهكذا نرى الآية جاءت لتغطي كل حالات التعامل بين الناس مخفية كانت أم معلنة، ونرى أن نسخ هذه الآية من قبل الفقهاء (كذا) أدى إلى سقوط الضمير الإسلامي عند المؤمنين. ونرى أن قوله تعالى (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) ليس له أية علاقة بما ذكرناه، ولا مبرر إطلاقاً للقول بالنسخ، إذ لكل آية حللها الخاص بها ومجالها الذي تطبق فيه.
إن آية البقرة 284 تستهدف كما قلنا، السلوك والعمل الانساني الواعي المقصود، وتتحدث عن الذنب يليه العذاب أو المغفرة، أما الآية 286، فتتحدث عن النسيان أو الخطأ (إن نسينا أو أخطأنا)، أي أن مجال تطبيقها هو الخطأ غير المتعمد أو المقصود، الذي شرحناه بالتفصيل في صفحات سابقة، مما نعود بعده إلى الجزم رمة أخرى بعدم جواز النسخ، في الرسالة الواحدة.

الجمعة، 18 ديسمبر 2009

الوحي وعلم الله وقضاؤه




الوحي وعلم الله وقضاؤه


أولاً: الوحي:
(إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا). (النساء 163) .
إن الوحي هو أحد أنواع المعرفة الخاصة. وقد جاء الوحي في اللسان العربي من فعل "وحى" وهو أصل يدل على إلقاء علم في الخفاء إلى غيرك. والوحي: الإشارة وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى علمه فهو وحي كيف كان.
فالوحي في الأساس هو نقل المعلومات والأوامر والنواهي بعدة طرق عددها الكتاب بالأشكال التالية:
1 - الوحي عن طريق البرمجة الذاتية.
2 - الوحي عن طريق التشخيص "السمع والبصر".
3 - الوحي عن طريق توارد الخواطر.
4 - الوحي عن طريق المنام.
5 - الوحي المجرد.
6 - الوحي الصوتي عن طريق السمع.
الوحي عن طريق البرمجة العضوية في الكائنات الحية أو الوظيفية في ظواهر الطبيعة: وذلك عن طريق تخزين معلومات وأوامر في البنية الجينية للخلايا كقوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون). (النحل 67). (ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون). (النحل 69). أو في البنية الوظيفية للأشياء كقوله: (فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها…الآية). (فصلت 12) وكقوله تعالى: (يومئذ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها) (الزلزلة 4-5) .
الوحي عن طريق التشخيص "صوت وصورة": وهذا ما نسميه بالوحي الفؤادي وهو أبسط أنواع الوحي وأكثرها بدائية وفعالية وقد جاء هذا النوع من الوحي إلى إبراهيم في قوله: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ). (هود 69). وقوله: (ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب). (هود 77) .
الوحي عن طريق توارد الخواطر: وهذا الوحي وارد لكل البشر حتى يومنا هذا وهو عندما يقع الإنسان في مأزق أو يفكر في مشكلة علمية تستحوذ على كل تفكيره، تأتيه فكرة أو خاطرة ما فيها الخروج من المأزق أو حل المشكلة العلمية "كتفاحة نيوتن". وهذا النوع من الوحي جاء في الكتاب في قوله: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين). (القصص 7) .
وفي قوله تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي). (المائدة 111). وقوله عن يوسف: (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون). (يوسف 15) وقوله لموسى: (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى). (طه 38) .
هذا النوع من الوحي ليس له أية علاقة بالأمور الشرعية التي تتعلق بأم الكتاب وإنما له علاقة بالأمور الإجرائية والمعرفية حين الأزمات ولا يأتي إلى إنسان عشوائيا، فالإنسان لا يفكر في أمور الذرة فيأتيه إلهام حول أسرار الذرة.
الوحي عن طريق المنام: هنا يجب أن نميز بين مصطلحين هامين وهما: الحلم والمنام إذ لهما مفهومان مختلفان فيا لكتاب. والشيء المشترك بينهما هو أن كليهما يحصل أثناء النوم. فالحلم هو مجموعة من الصور التي يراها الإنسان وهو نائم وتتصف بأنها عبارة عن صور متداخلة بعضها ببعض وغير مرتبطة. لذا عندما رأى فرعون الرؤيا قالوا له (أضغاث أحلام). وقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر). (الأنبياء 5). لأن الأضغاث هي صفة الأحلام وتعني في اللسان العربي التباس الشيء بعضه ببعض. والحلم جاء من فعل "حلم" واحد معانيه النضوج الجنسي كقوله تعالى: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوكما استأذن الذين من قبلهم). (النور 59). وإذا بين العلم أن هناك رابطا بين الأحلام وبين النضوج الجنسي فهذا وارد.
أما المنام فهو ظاهرة مختلفة عن الحلم، فالمنام يعبر عن ظاهرتين:
أ‌ - أحد أنواع الوحي للأنبياء.
ب‌ - بالنسبة لغير الأنبياء يسمى المبشرات وهوا لرؤيا الصادقة.
ومازالت الرؤيا الصادقة ظاهرة شائعة بين الناس بغض النظر عن التقوى وهي ليست حلما. لقد جاء الوحي في المنام إلى إبراهيم: (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) (الصافات 102). هنا جاء الوحي بإعطاء أمر من الأوامر.
وهناك وحي في المنام بإعطاء معلومات كالوحي إلى يوسف: (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين). (يوسف 4). والوحي في المنام إما أن يكون صريحا، كالوحي إلى إبراهيم، وإما أن يكون غير صريح وبحاجة إلى تأويل كالوحي إلى يوسف حيث قال في نهاية السورة: (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا…الآية). (يوسف 100) .
هنا يجب أن نميز بين قول إبراهيم: (إني أرى في المنام)ن حيث استعمل "أرى" في فعل مضارع، وبين قول يوسف: (إني رأيت) في الماضي. فالإنسان لا يذبح ابنه بمجرد أن رأى في المنام مرة واحدة أنه يذبحه، بل تكرر هذا المنام لإبراهيم حتى صدقه، بدليل استعمال المضارع "إني أرى". أما مع يوسف فمحتوى المنام كان خبرا، لذا جاءه مرة واحدة فقال: (إني رأيت) وقد صدق الرؤيا. لذا سمى الله إبراهيم صديقا فقال: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا). (مريم 41) وقارن هذه الآية حول تصديق الرؤيا في قوله: (قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين). (الصافات 105) وكذلك كانت طريقة الوحي إلى إدريس حيث بينها في قوله: (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا). (مريم 56) .
وقد أكد طريقة الوحي عن طريق المنام ليوسف حيث سماه أيضا صديقا في قوله: (يوسف أيها الصديق). (يوسف 46) .
وكذلك أطلق الكتاب على مريم لقب صديقة في قوله: (وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام). (المائدة 75) وذلك لأنها صدقت جبريل بأنه سيهبها غلاما ذكيا وجاءها بشكل بشر سوي بدون أي علامة فارقة فصدقته بمجرد أن أخبرها بهذا الخبر فسماها صديقة وقد أكد ذلك في قوله تعالى: (وصدقت بكلمات ربها وكتبه). (التحريم 12). وقد سمي أبو بكر صديقا لأنه كان يصدق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يقوله بمجرد أن يقول وبدون أي نقاش.
والآن لنميز أنواع الرؤيا الصادقة:
أ‌ - النوع الأول: للأنبياء وهو الوحي عن طريق المنام. فهذا الوحي كما قلت إما مباشر كالوحي إلى إبراهيم، أو غير مباشر "رمزي" كالوحي إلى يوسف.
ب‌ - المبشرات: وهي الرؤيا الصادقة وليست وحيا. وهذا يمكن أن يحصل مع كل الناس، المؤمن وغير المؤمن. ويمكن أن يكون مباشرا أو رمزيا. وهذا ما أطلق عليه الكتاب مصطلح الوفاة.
هنا يجب علينا أن نميز بين مصطلحين حصل فيهما خلط والتباس وهما: الوفاة والموت. وقد قلنا إن الروح ليست سر الحياة العضوية وإنما هي سر الأنسنة. فلا تدخل في مصطلح الموت أو الوفاة. وكل ما قيل عن الروح بأنها سر الحياة أو أي موضوع ربط الروح بالحياة العضوية يجب أن يستبعد لأنه –كما بينا سابقا- يخالف العمود الفقري للكتاب جملة وتفصيلا.
وكل ذلك حدث بسبب الالتباس في المصطلح بين النفس والروح حيث أن النفس يقابلها في اللغة الإنكليزية مصطلحان (body) الجسد العضوي. ومصطلح (Soul) النفس المشاعر والأحاسيس والشخصية "الأنا". أما الروح فيقابلها مصطلح (Spirit) وفي اللغة الروسية هناك مصطلح (Gywa) النفس ومصطلح الروح (Gyx). ففي الكتاب أطلق مصطلح النفس على معنيين يفهمان حسب سياق الآية:
-المعنى الأول: النفس ككائن عضوي حي تنطبق عليه ظاهرة الموت وهي التي قال عنها: (كل نفس ذائقة الموت). (آل عمران 185). هذه النفس التي تموت يدخل تحت معناها كل الكائنات الحية بما فيها الإنسان: (الذي خلقا لموت والحياة). (الملك 2). وهذه النفس التي يمكن قتلها والتي جاءت في قوله: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق). (الأنعام 151). والنفس التي حرم الله قلتها هي النفس البشرية.
وهناك نفوس أحل الله قتلها كالأنعام والبهائم والأسماك…الخ. وجاءت أيضا في قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا). (آل عمران 145) وهذه النفس التي قال عنها: (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله). (الحجرات 15). وقال عنها: (وإذا النفوس زوجت). (التكوير 7). هذه النفس التي نطلق عليها مصطلح الجسد العضوي المادي والذي ينتقل من حال الحياة إلى حال الموت والتحلل العضوي والتغير والفناء.
-المعنى الثاين: النفس الإنسانية فقط وهي النفس التي تتوفى والتي لها طب خاص بها اسمه الطب النفسي. وهي مجموعة الأحاسيس والمشاعر وفيها الحب والكراهية والألم النفسي والراحة النفسية والسرور والعذاب وهذه التي قال عنها الله سبحانه وتعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى عن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). (الزمر 42) .
هنا يتبين لنا الفرق الكبير بين الروح والنفس.
حيث أن الروح هي إزالة التناقض والربط المجرد وهي سبب امعرفة اوالتشريع وسبب الخلافة، وهي من الله مباشرة لأنها من صفات الله التي لاينطبق عيها قانون صراع المتناقضات الدالخية في ذاته. أما النفس التي تتوفى فهي الصور المدركة والأحاسيس واللذات والمشاعر ولها جدل خاص بها وهي ليست الروح وإنما من نتاجها حيث أن لاصور والأحاسيس تعتمد على المدركات من الأشياء وإدراك الأشياء يتم بواسطة الروح. حيث أن هذه الأمور لا تتحلل بالموت لأنها غير مادية، لذا ذكر لها "الوفاة" وذكر للنفس العضوية "الموت".
وأعطى نفس المصطلح للحالتين لأنهما مرتبطتان بعضهما ببعض في الحياة. ولا يحصل الانفصال إلا في حالتين وهما المنام والموت لذا قال: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها). ويحسن هنا أن نزيل الالتباس الذي يقول أن النوم هو كالوفاة فهذا وهم. فالمنام هو الوفاة والذي يحصل أثناء النوم وليس النوم نفسه. فماذا يحصل في المنام وليس في الحلم؟ يرى النائم في المنام مجموعة منا لصور والأحداث المباشرة لها معنى مباشر أو رمزي فيها رعب أو سرور و خوف أو فرح أو ألم أو لذة…الخ فيقول الكتاب إن هذه وفاة مؤقتة للنفس حيث ترسل لقوله: (ويرسل الأخرى). هذه الحالات لا تحدث في الضرورة كلما نام الإنسان، ولكن إذا حدثت، فإنها تحدث أثناء النوم. ولتمييزها عن الحلم فإنها قابلة للتحقيق "التأويل" وهذه التي سميت المبشرات "الرؤيا الصادقة".
أما الوفاة الدائمة التي قال عنها: (حين موتها). فذاك أنه في لحظة الموت لكل إنسان على الإطلاق بغض النظر أكان الموت سريعا جدا أو بطيئا لأننا نعني لحظة الموت يرى الإنسان مجموعة منا لصور يشعر فيها بالراحة أو بالعذاب. هذه الصور تبقى ثابتة إلى يوم يبعثون والجسد ليس له علاقة بذلك دفن أم حرق. هذا ما نسميه حياة البرزخ. هذه الحياة صور ثابتة وشعور ثابت وهي حالة غير عضوية ما عدا "النبيين والشهداء".
وهكذا فقط نفهم قوله تعالى: (ولو ترى إذا الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون). (الأنعام 93). ونفهم قوله تعالى: (فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين * فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنت نعيم * وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلم لك من أصحاب اليمين * وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن هذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم). (الواقعة 83 إلى 96) .
هنا نلاحظ كيف يعطي صورة الوفاة حين الموت. فالمقربون يشعرون كشعورهم بفسحة ونزهة "روح" وهم في غاية الراحة "ريحان" هنا ريحان على وزن فعلان وهي ضد "تعبان". ولكي يبين أن ذه الصورة التي تحصل في الوفاة حين الموت تبقى ثابتة إلى يوم يبعثون قال عنآل فرعون: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب).
هنا أكد القرآن أن لا نعيم جسديا والعذاب جسديا إلا بعد البعث الجسدي والحساب المادي، فهناك الجنة والنار الماديتان.
هذا البحث يقودنا إلى استنتاج مهم جدا وهو ما يقال عنه عذاب القبر. فإذا فهم عذاب القبر فهما رمزيا على أنه الصورة التي يراها المتوفى حين الموت بغض النظر أدفن في القبر أم أحرق أم التهمته الوحوش فهذا وارد ولا يتعارض مع المفاهيم الواردة في الكتاب. أما ما ورد في بعض الكتب عن سؤال منكر ونكير بعد الدفن، ويسألون الميت عن ربه ودينه فلم يثبت في نص صحيح. وإن ما يفعله بعضهم من تلقين الميت بعد الدفن فما لم نجد له سندا صحيحا. وإن من مجانبة الدقة أن نقول الصلاة على روح فلان أو الفاتحة إلى روح النبي صلى الله عليه وسلم أو روح الميت. والأدق أن نقول الصلاة على نفس فلان ونفس النبي صلى الله عليه وسلم أو نفس الميت.
وإننا نقرأ في الأثر قول النبي صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده" وإن كل ما ورد في الأثر وفي اكتب التراث أو الأحاديث حيث تذكر الروح على أنه سر الحياة يجب أن يعاد النظر فيه ووضع إشارة استفهام كبيرة على صحته.
أما النفس التي ترى حين الوفاة الروح والريحان وجنة نعيم وتثبت لها هذه الصورة إلى يوم القيامة فهي التي قال عنها: (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي). (الفجر 27-30) ويبقى أن نلاحظ أنه حيث ورد ذكر الموت والوفاة في الكتاب فالمصطلح المرافق هو مصطلح النفس وليس مصطلح الروح.
قد يسأل سائل: لقد أوردت في بحث الجدل أن الجنة والنار لم توجدا بعد وإنما ستوجدان علىأنقاض هذا الكون بعد هلاكه، فكيف قال عن النفس المطمئنة (وادخلي جنتي). والجنة لم توجد بعد؟ الجواب أن الكتاب أورد أن هناك جنة ليس لها علاقة بجنة المتقين أو جنة الثواب والعقاب وهي التي سماها: (جنة المأوى). في قوله: (ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى). (النجم 13-15) .
من هذه الآيات نناقش حادثة المعراج. فإذا شاهد النبي الجنة والنار في المعراج-وقد قلنا إن الجنة والنار لم توجدا بعد- فهذا يعني أن المعراج حصل في المنام. أما إذا كانت المشاهدة فؤادية أي مرتبطة بالحواس فهذا يعني أنه شاهد جنة المأوى وليس جنة الثواب. وقد ذكر الكتاب بأن المشاهد حسية فؤادية في قوله: (ما كذب الفؤاد ما رأى). (النجم 11). وفي قوله: (ما زاغ البصر وما طغى). (النجم 17) .
وفي الختام يبق للبحث المستقبلي ترتيل آيات النفس التي جاءت في الكتاب وتصنيف الآيات حسب معنى النفس –الجسد التي تموت والنفس التي تتوفى. فعلى سبيل المثال: (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). (العنكبوت 40). هنا النفس التي تتوفى: (فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم). (السجدة 27). هنا النفس التي تموت.
لقد ذكرنا أن ما جاء في الكتاب عن الوفاة والموت يسمى حياة البرزخ بالنسبة لكل الناس. والناس الوحيدو المستثنون من هذه الحياة هم الأنبياء والشهداء. فهذه الحياة بالنسبة لهم ملغاة حيث تستمر مباشرة حين موتهم ووفاتهم –حياتهم المادية الجسدية والنفسية- عند الله سبحانه وتعالى وليس في الجنة.
وقد يقول البعض إن جثث الشهداء تبقى في الأرض أو تحرق. هذا صحيح ولكن جسد الإنسان المادي عبارة عن مجموعة منا لكميات والنسب الماديةا لمؤلفة من عناصر، ولكل إنسان وصفة خاصة به من المواد ونسبها وهندستها، هذه الوصفة موجودة عند الله سبحانه وتعالى ويعاد تركيبها. أما الجسد الذي مات فيبقى في الأرض. لذا قال عن الشهداء: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون). (آل عمران 169). هنا قال: "أمواتا" ويعني بذلك الحياة العضوية وأتبعها بوله: (أحياء عند ربهم). وأضاف إليها أمرا ماديا بحتا في قوله: (يرزقون). وتلاحظ قوله: (عند ربهم). ولم يقل في الجنة كقوله تعالى: (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب). (الرعد 39) .
وقوله: (إن الله عنده علم الساعة). (لقمان 34) .
وقد أكد أنه لا بعث للنبيين والشهداء لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون في قوله: (وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون). (الزمر 69). لاحظ قوله: (وجيء بالنبيين والشهداء). قال هذا لأنهم أصلا موجودون "عند ربهم".
هنا تتبين لنا المرتبة العالية للشهداء حيث أن مكافأتهم من الله هي من جنس التضحية التي قدموها ولكن تفوقها درجات. فالشهداء قصروا أعمار أنفسهم وآثروا الموت على أن يستمروا في الحياة ويستمتعوا بها أطول مدة ممكنة فكافأهم الله سبحانه وتعال بأن أحياهم ومتعهم ورزقهم من لحظة موتهم إلى يوم يبعثون.
-الوحي المجرد: وهو أرقى أنواع الوحي وهو أن يأتي جبريل بدون أن يدرك بالحواس فيلتبس مع النبي صلى الله عليه وسلم ويسجل الآيات الموحاة بشكل مباشر في الدماغ "القلب". هذا النوع من الوحي الأساسي الذي كان يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم. هنا يجب أن نناقش الوهم الذي يقع فيهالبعض وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغيب عن الوعي عندما كان يأتيه الوحي المجرد، حيث قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تأتيه نوبات من الصرع وقد حصل هذا الوهم من أنا لنبي صلى الله عليه وسلم كان يغيب عن الوعي ويتفصد عرقا حين كان يأتيه الوحي، وبعد أن يتركه الوحي :ان يصحو ويعود إلى وعيه، ويرتل الآيات التي أوحيت إليه، وأحيانا كانت تأتيه سورة كاملة من السور الطوال على دفعة واحدة كسورة يوسف، ومعظم سورة الأنعام. لنناقش هذه الظاهرة ونرد على هذا الوهم:
1 - إن الإنسان المريض بالصرع وتأتيه نوبات الصرع يصحو بعد النوبة كالمخبول ولا يقول إنه علم شيئا أو زادت معلوماته قيد أنملة أثناء النوبة. وكل العرب الذين عاشوا مع النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن منهم والكافر كانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغيب عن الوعي أثناء الوحي. وبعد أن يعود إلى وعيه يتلو عليهم الآيات التي أوحيت إليه.
2 - إننا نعلم بشكل قاطع نهلا يمكن للإنسان أن يفكر بشكل متلازم بأمرين اثنين بنفس اللحظة. فهناك طريقتان لاستلام المعلومات: إما عن طريق الحواس التي توصلها إلى المخ "الإدراك الفؤادي" ثم يبدأ المخ بعملية التحليل والتركيب "الفكر والعقل" ويصدر أحكاما. وفي هذه الحالة، الحواس هي واسطة المعرفة والإنسان بحاجة ماسة إليها. وإما أن تأتي المعلومات إلى الدماغ بشكل مباشر متجاوزة الحواس. ولا تتجاوز الحواس موضوعيا إلا إذا غاب الإنسان عن الوعي. والعلم والتجارب العلمية يمكن أن تبرهن على هذا حاليا أو في المستقبل وذلك إن أردنا أن نعطي معلومات وأوامر ونواهي إلى دماغ شخص بشكل مباشر واستطعنا فعل ذلك فهذا يعني أننا بالضرورة نحتاج إلى أن نعطل حواس الشخص الذي يتلقى المعلومات ونغيبه عن الوعي لأنه لا يمكن أن نعطي للإنسان معلومات مباشرة إلى دماغه وحواسه تعمل، لأن الحواس بحد ذاتها هي مصدر للمعلومات.
وعلى هذا فإنه من الناحية العلمية، لا غرابة أبدا بأن يغيب النبي صلى الله عليه وسلم عن الوعي أثناء الوحي. لذا أطلقت على هذا النوع من الوحي مصطلح الوحي المجرد أي المجرد عن الحواس، وهو أرقى أنواع الوحي. علما بأنه وحي مادي أي كان يأتي من خارج دماغ النبي صلى الله عليه وسلم ومن خلال قوانين موضوعية "جبريل" وليس من نشاطات الدماغ الذاتية لذا قال: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا). (الإسراء 105). أي ترجمة القرآن إلى العربية حدثت خارج وعي محمد صلى الله عليه وسلم. (وبالحق أنزلناه). وتم نقله موضوعيا إلى قلب محمد صلى الله عليه وسلم. (وبالحق نزل). لذا كان دور النبي صلى الله عليه وسلم هو البشير والنذير حيث أن التبشير بالجنة والإنذار بالنار هو من القرآن.
-الوحي الصوتي: وهو شكل الوحي الذي جاء إلى موسى عليه السلام فقط بالإضافة إلى أشكال أخرى كالإلهام. لذا فصل الوحي إلى موسى في أية منفصلة وحدها في قوله: (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما). (النساء 164). حيث نرى في الآية 163 من سورة النساء مجموعة من الأنبياء والرسل ذكرهم الله في آية واحدة وذكر أنه أوحى إليهم، ولم يذكر فيهم موسى، بل خصه وحده بهذه الآية المنفصلة.
هذا الوحي الصوتي جاء لموسى شفاهة "صوتا" ومنسوخا كالوصايا العشر "الفرقان" حيث قال: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظةً وتفصيلا لكل شي فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفاسقين). (الأعراف 145). وقوله: (وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره). (الأعراف 150) .

- أنواع الوحي التي أوحيت للنبي محمد صلى الله عليه وسلم:
1 - الوحي المجرد: لقد كان هذا النوع الأساسي للوحي للنبي صلى الله عليه وسلم.
2 - الوحي الفؤادي: كانت بداية الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم بداية فؤادية حيث لو بدأ الوحي مجردا لما صدق النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ولظن نفسه أنه متوهم. لذا كانت البداية الفؤادية للوحي هي ضرورة بشرية، حيث أن الحواس أساس المعرفة، فجاءه جبريل لأول مرة صوتا وصورة، ولم يغب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة عن الوعي. وقد أوحيت له بالطريقة الفؤادية أوائل سورة العلق. ثم أحيانا كان يأتيه جبريل بصورة إنسان يراه هو والآخرون ويخبره ويسأله بمرأى ومسمع من الآخرين دون أن يغيب أحد عن الوعي. في هذا المجال يتبين لنا لماذا لم ينزل عليه القرآن "لا الكتاب" جملة واحدة، بل جاء مرتلا، وكان السبب فؤاديا بحتا لقوله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا). (الفرقان 32).
لذا جاء القرآن على دفعات ببداية فؤادية "مشخصة" لتثبيت فؤاد النبي أي لكيلا يشك ثم جاءه بعد ذلك على أرتال بالطريقة المجردة.

ثانياً: علم الله:
قلنا إن علم الله هو أرقى أنواع العلم. وهو علم تجريدي بحت ويحمل الصفة الرياضية المتصلة والمنفصلة معا: (وأحصى كل شيء عددا). (الجن 28). (وكل شيء عنده بمقدار). (الرعد 8) وقلنا إن العلم التجريدي هو علم مجرد عن الحواس. فالحواس ضرورية للإدراك الفؤادي المتعلق بالحواس. هذا من ناحية، ومن ناحيةأخرى ضرورية لناقصي المعرفة أي لاكتساب المعارف عن العالم الموضوعي المادي. أما الإدراك المجرد فهو إدراك بمعزل عن الحواس "العقل"، لذا فعلم الله علم مجرد وهو في الوقت نفسه يحمل صفة كمال المعرفة.
فإذا قلنا إن مخلوقا ما يعرف أشكال الموجودات واحتمالاتها، ويعرف كل أصوات الموجودات واحتمالاتها. ففي هذه الحالة يبصر ولكن بدون عين وسمع ولكن بدون أذن فيزيولوجية لذا نقول إن الله سميع بصير أي يسمع بدون أذن ويبصر بدون عين فيزيولوجية حيث أن الحواس ضرورية لناقصي المعرفة. وقد أكد ضرورتها لاكتساب المعرفة وربطها بالفؤاد في قوله: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون). (النحل 78) .
فبالنسبة لناقص المعرفة هناك السمع كوظيفة عضوية للأذن تؤدي إلى المعرفة، وهناك الاستماع كفعل إرادي للإنسان نفسه. لذا فإننا نرى في الكتاب صيغة "قد سمع الله" كقوله: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها). (المجادلة 1). وقوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء). (آل عمران 181). ولكننا لا نرى في الكتاب صيغة "استمع الله" وإنما هي لغير الله من العاقل كقوله: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن). (الجن 1). وقوله: (قال لمن حوله ألا تستمعون). (الشعراء 25) وقوله: (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا). (الجن 9) وقوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) (الأعراف 204) .
لنناقش الآن: هل كامل المعرفة يحتمل الشريك؟ أي أن الله كاملا لمعرفة، فهل هناك إمكانية بأن يحمل إله آخر أو أي كائن آخر نفسا لصفة؟ هذا مستحيل. وللدلاة على ذلك نقول إن كمال السرعة في حدود ما نعلم، موجود في الضوء، فإذ سار جسم بسرعة أقل من سرعة الضوء لا يصبح ضوءا، ويبقى جسما مغايرا للضوء. ولكنه إذا سار بسرعة الضوء، يصبح ضوءا حيث نه لا يسير بسرعة الضوء إلا الضوء. فالسيارة تصبح ضوءا، والإنسان يصبح ضوءا إذا بلغت سرعتهما سرعته.
وهكذا نرى أن كمال السرعة لا يكون إلا في واحد، وهذا الواحد لا يحتمل الشريك ولا يحتمل معادلة الزمن. وكمال المعرفة لا يكون إلا في واحد ولا يحتمل الشريك ولا يحتمل معادلة الزمن: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم). (الحديد 3). وكما أن سرعة الضوء هي السرعة التي تنسب إليها كل سرعات الأجسام الأخرى. وكذلك فإننا ننسب إلى علما لله كل علوم المخلوقات الأخرى (ولا يحيطون بشيء منعلمه إلا بما شاء). (البقرة 255).
وبما أن الروح هي سر اكتساب المعرفة فقد أعطاها الله للإنسان ليكون خليفة له: (ونفخت فيه من روحي). فأصبح البشر إنسانا متعلما متكسبا للمعارف. فكلما زادت معارف الإنسان زاد اقترابا منا لله بالمعرفة. وكلما زاد جهلا بعد عن الله. وهكذا فإننا نرى أن الإنسان ككل يقترب من الله مع التطور ومرور الزمن، وسيبقى هذا الاقتراب من الله مستمرا حتى يأتي يوم يظن فيه الإنسان أنه أصبح إلاها. فعند ذلك تقوم الساعة (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا). (يونس 24) .
والآن نسأل السؤال التالي: هل علم الله يقيني أم احتمالي؟ نقول هو الاثنين معا. فعلم الله يقيني كامل بالأشياء والأحداث القائمة والموجودة فعلا كقوله: (وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون). (الأنعام 80) وقوله: (وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا). (الأعراف 89). وقوله: (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما). (طه 98). وقوله: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما). (غافر 7). وقوله: (وأن الله قد أحاط بكل شيء علما). (الطلاق 12). وقوله: (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه). (فاطر 11، فصلت 47) وقوله: (والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكل شيء عليم).(الحجرات 16). وقوله: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم). (الحديد 3). وقوله: (ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم). (المجادلة 7). وقوله (ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم). (التغابن 11). وقوله: (ألم تعلم أن الله يعلم ما فيا لسماء والأرض). (الحج 70) .
نلاحظ في الآيات السابقة قوله: (بكل شيء). والأشياء هي الموجودات فعلا وقد أجمل علمه بقوله: (وسع كرسيه السموات والأرض). وقد شرحت معنى الكرسي في الباب الأول. أما عن حركة الأشياء ووظائفها فقال: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها). (سبأ2، الحديد 4). وقوله: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها). (الأنعام 59) .
وعلينا هنا أن نميز بين نوعين من علم الله:
أ‌ - النوع الأول: علم الله بالأشياء وظواهرها وحركاتها وهو الذي شرحناه.
ب‌ - النوع الثاني: علم الله بالسلوك الإنساني الواعي وبالاختيار الإنساني.
لقد حصل لغط كثير وجدل طويل وأخذ ورد والتباس في النوع الثاني من علم الله حول السلوك الإنساني والاختيار. ومرد هذا الالتباس إلى أنهم أدخلوا في علم الله حول الاختيار الإنساني ما لا يدخل فيه، ولم يرد له ذكر في الكتاب.
فحول علم الله بالاختيار الإنساني قال:
- (ويعلم ما تخفون وما تعلنون). (النمل 25) .
- (وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون). (النمل 74) .
- (وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون). (القصص 69) .
- (والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما). (الأحزاب 51) .
- (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور). (غافر 19) .
- (ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون). (الشورى 25) .
- (والله يعلم متقلبكم ومثواكم). (محمد 19) .
- (والله يعلم إسرارهم). (محمد 26) .
- (والله بصير بما تعملون). (الحجرات 18) .
- (ويعلم ما تسرون وما تعلنون). (التغابن 4) .
- (إنه يعلم الجهر وما يخفى). (الأعلى 7) .
- (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه). (البقرة 270) .
- (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله). (آل عمران 29) .
- (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون). (آل عمران 167) .
- (وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم). (آل عمران 92) .
- (قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين). (القصص 85) .
- (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم). (البقرة 187) .
- (فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم). (الفتح 18) .
- (فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا). (الفتح 27) .
- (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم). (المزمل 20) .
- (علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض). (المزمل 20) .
- (علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا). (البقرة 235) .
- (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم). (الأنفال 23) .
- (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا). (الأنفال 66) .
إن الآيات الواردة أعلاه كلها تتحدث عن سلوك إنساني واع، فلنأخذ مثلا قوله: (يعلم ما تخفون وما تعلنون) فقد جاءت في صيغة المضارع للدلالة على استمرارية المعرفة أولاً، وجاءت المعرفة لأمر مخفي فعلا. فإذا كان زيد في لحظة ما لا يخفي شيئا فالله يعلم أن زيدا لا يخفي شيئا في هذه اللحظة. وفي لحظة تالية إذا أخفى زيد شيئا فإن الله يعلم أن زيدا قد أخفى شيئا. وكذلك الإعلان والإسرار. وبما أن السر والعلن متغير عند الإنسان بتغير نواياه، فجاء العلم بصيغة المضارع للدلالة على استمرارية المعرفة. فأين يكمن الالتباس إذا؟
إن الالتباس يكمن في أنه إذا نوى زيد غدا القيام بأمر ما فإن الله منذ الأزل يعلم أن زيدا في يوم كذا وساعة كذا وثانية كذا سينوي القيام بهذا الأمر. إننا ننظر إلى الأمر نظرة مغايرة ولتبيانها نقول:
أولاً لنناقش أنه لو كان يدخل في علم الله منذ الأزل ماذا سيفعل زيد في حياته الواعية وما هي الخيارات التي سيختارها زيد منذ أن يصبح قادرا على الاختيار إلى أن يموت. فالسؤال لماذا تركه إذا كان يعلم ذلك؟ هنا من أجل تبرير هذا الأمر ندخل في اللف والدوران فنقول إن الله علم منذ الأزل أن أبا لهب سيكون كافرا، وأن أبا بكر الصديق سيكون مؤمنا. ثم نقول إن أبا لهب اختار لنفسه الكفر وأبو بكر اختار لنفسه الإيمان. إن هذا الطرح لا يترك للخيار الإنساني الواعي معنى، وإنما يجعله ضربا من الكوميديا الإلهية مهما حاولنا تبرير ذلك. فإن كان الأمر كذلك فماذا نعني بقولنا: إن الله كامل المعرفة؟
إننا نعني أن الله كامل المعرفة بالأشياء وأحداثها "الطبيعة وظواهرها" لأن علمه رياضي (وأحصى كل شيء عددا). (وكل شيء عنده بمقدار). (الرعد 8). وعلمه رياضي، لأن الرياضيات اليوم هي أرقى أنواع العلوم، ولو توصل العقل الإنساني "المصوغ من روح الله" إلى علم هو أرقى منا لرياضيات وسميناه العلم س ثم وجدنا في القرآن إشارة لذلك كانت تخفى علينا أو كنا نؤولها تأويلا آخر لجهلنا بالعلم س لقلنا إن علمه جل وعلا علم سيني… وما دمنا لا نعرف علما أرقى منا لرياضيات فإننا نذهب ولا نتحرج إلى أن علمه رياضي "دلنا على ذلك العقل المصوغ من روح الله"… إن الرياضيات تتصف بالدقة والتنبؤ، فنحن إذا علمنا القانون الرياضي لظاهرة ما فيا لطبيعة، يصبح من السهل علينا أن نتنبأ سلفا عن سلوك هذه الظاهرة.
وهذا ما نفعله الآن في الاختراعات الكبيرة في الطب والعلوم. إذ يمكننا أن نحكم سلفا عن موعد وصول الصاروخ إلى القمر إذا عرفنا قدرته وسرعته… الخ. وبما أن الوجود هو كلمات الله، فقد أعطانا الله الاطمئنان بأنه لا مبدل لقوانينه: (لا مبدل لكلماته). وإن عين الأشياء هي كلماته. إن ظواهر الأشياء في كلماته لذا قال: (سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون). (مريم 35). (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون). (يس 82). وقال عن ظواهر الطبيعة إنها في كتاب مبين فلا يوجد شيء في الطبيعة صغيرا كان أم كبيرا إلا يعلمه الله ويسيطر عليه: (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير). (لقمان 16). لذا فإن معرفة الإنسان بكلمات الله هي مفتاح خلافته لله في الوجود وهي مفتاح رقيه.
فعلم الله بالطبيعة إما علم مبرمج سلفا في اللوح المحفوظ "القرآن المجيد" والذي يحوي قوانين جدل الطبيعةالأول والثاني والخلق والتطور والساعة والبعث واليوم الآخر والجنة والنار، أي قوانين الجدل المادي لهذا الكون والكون الذي يليه. وإما علم في كلية الاحتمالات لظواهر الطبيعة الجزئية القائمة على الأضداد واليت نفهمها من خلال الرياضيات والتي سماها "كتاب مبين". وبما ان سلوك الإنسان سلوك احتمالي فقد سمى القصص أيضا الكتاب المبين لذا قال: (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين). (يس 12). أي ان الإمام المبين هوأرشيف الأحداث الجزئية الجارية للأشياء فيا لكون والإنسان لذا جاء القصص من الإمام المبين وهناك معلومات عند الله فقط، غير مؤرشفة وغير مبرمجة سلفا وهي التي قال عنها: (إن الله عنده علم الساعة). (لقمان 34) .
أما بالنسبة لسلوك الإنساني الواعي، فحتى نفهم هذا السلوك الواعي يجب علينا أن لا ننسى أن الإنسان خليفة الله في الأرض وأنه يوجد في الإنسان وليس في الكائنات الحية الأخرى شيء من ذات الله وهو الروح وبها أصبح خليفة الله في الأرض واكتسب المعارف وأصبح قادرا على المعرفة والتشريع. هذه النقطة إذا نسيناها فإن السلوك الإنساني سيتحول إلى مجموعة من الصور المتحركة يديرها الذي صممها "أفلام كرتون". ولكن إذ قلنا إن هناك أمرا مشتركا بين الله والإنسان وهو الروح، أي إذا قلنا إن الصور المتحركة فيها شيء من ذات المصمم لتغير الأمر.
فعلم الله في السلوك الإنساني الواعي يقسم إلى قسمين:
1 - علم الله الكامل بكلية الاحتمالات التي يمكن أن يسلكها الإنسان، فأمام كل إنسان على حدة، ملايين الاحتمالات كل يوم في موعد نومه وفي طعامه وفي لباسه وفي كلامه وفي علاقته مع الآخرين وفي صلاته وفي صومه وإيمانه وكذبه وفي أن يتعلم أو يبقى جاهلا وهكذا دواليك. فلا يمكن لأي إنسان أن يقوم بأي عمل علني أو يخفي أي أمر أو يتبنى أية فكرة سرا أو علنا إلاوتصرفه داخل في هذه الاحتمالات وبالتالي فهو داخل في علم الله الكلي، أي لا يمكن لأي إنسان مهما عمل أن يقوم بعمل ما سرا أو علنا ويفاجئ الله به ولا يدخل في كلية احتمالات علمه وهذه هي عين كمال المعرفة كسرعة الضوء فإنها تحوي كل احتمالات السرعات الممكنة للأشياء. فأبوبكر لم يفاجئ الله بإيمانه وأبو لهب لم يفاجئ الله بكفره، لأن الكفر والإيمان كليهما معا يدخل في علم الله. ألاترى إلى قوله: (لمن شاء منكم أن يستقيم). (التكوير 28) .
حيث ذكر الاستقامة في حيز التبعيض، فالذي لا يشاء الاستقامة ينحرف، فعلم الله ومشيئته أن يكون هناك استقامة وانحراف معا، لذا قال في مجال الكلية وليس في مجال التبعيض: (وما تشاؤون إلاأن يشاء الله). (الإنسان 30). ففي علم الله ومشيئته الاستقامة والانحراف معا، وفي مشيئتنا نحن أن نستقيم أو ننحرف. بيد أن من يستقم فإنه لا يفاجئ الله باستقامته، ومن ينحرف لا يفاجئ الله بانحرافه. وفي هذا يصبح الخيار الإنساني الواعي خيارا حرا يستلزم الثواب والعقاب، وتصبح خيارات الإنسان غير مكتوبة عليه سلفا. وفي هذا قال: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). (الكهف 29). وإذا قلنا الآن إن الله منذ الأزل علم أن أبا بكر سيؤمن وأن أبا جهل سيكفر فهذا عين نقصان المعرفة وليس كمالها. أي أن علم الله يحمل صفة الاحتمال الواحد. ولو كفر أبو بكر وآمن أبو جهل لكانت هذه مفاجأة كبيرة لله تعالى، علما بأن باب الكفر والإيمان كان مفتوحا أمام الاثنين على حد سواء.
2 - علم الله الكامل بأحداث مسبقة بكلياتها وجزئياتها أو بأحداث جارية بكلياتها وجزئياتها: وذلك أنه في لحظة أن نوى أبو بكر الإيمان قبل أن يفضي بهذه النية لأحد وهي مازالت سرا في نفسه علمها الله أولا وفي نفس اللحظة التي نوى فيها أبو بكر الإيمان. وثانيا هذه المعرفة داخلة في احتمالات علمه الكامل أي لم يفاجأ بها. وهنا تكمن الصفة "الصورة" المشتركة بين الله والناس. فقد خلقنا الله أحرارا في اختيارنا ونحن بالنسبة له لسنا لهوا يلهو بنا. والفرق هو أنه كامل المعرفة "عليم" ونحن ناقصي المعرفة "متعلمين" لذا فهو حر وله تمام الحرية ونحن متحررون. وقد جاءت صيغ الآيات السابقة في صيغة الماضي وفي صيغة المضارع "الحاضر" للدلالة على علمه بأحداث مسبقة بكلياتها وجزئياتها أو بأحداث جارية بكلياتها وجزئياتها.
ولكي يبين حرية الاختيار للإنسان "وأن الإنسان الفرد لحظة اختياره لأمر ما، ينتقل هذا الأمر من علم الله الكلي "كمال المعرفة" إلى علمه المصنف الذي سيسجله على الإنسان" لذا قال (يهدي من يشاء ويضل من يشاء). وقال: (لا يهدي القوم الفاسقين). فإذا اختار الإنسان الفسق بملء اختياره لم يهده الله. ومن هنا فقد وضع الله تعالى صيغا بالنسبة للاختيار الإنساني على الشكل التالي:
(ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين). (العنكبوت 3). وقوله: (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء). (آل عمران 140). وقوله: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين). (آل عمران 142). وقوله: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم). (المائدة 94) وقوله: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون). (التوبة 16). وقوله: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا عل الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم). (البقرة 143) وقوله تعالى (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين). (محمد 31). وقوله: (ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا). (الكهف 12) .
في هذه الآيات قد يظن البعض أنا لله ناقص المعرفة، علما بأن هذه الآيات ليس لها علاقة بكمال المعرفة حيث أن كمال المعرفة كلي. وهذهالآيات تدخل تحت باب المعرفة الجزئية والتي هي جزء من المعرفة الكلية أي لا تحتوي على عنصر المفاجأة ولكن تدخل تحت باب التصنيف الجزئي. فالإنسان مثلا يختار الجهاد والإيمان، فهذا الاختيار يصنف في كتاب هذا الإنسان حصرا أي ينتقل من باب المعرفة الجزئية والتي هي جزء من المعرفة الكلية أي لا تحتوي على عنصر المفاجأة ولكن تدخل تحت باب التصنيف الجزئي. فالإنسان مثلا يختار الجهاد والإيمان، فهذا الاختيار يصنف في كتاب هذا الإنسان حصرا أي ينتقل من باب المعرفة الكلية للاحتمالات جميعها، إلى باب التصنيف الشخصي لأعمال الإنسان التي يختارها أصلا من ضمن المعرفة الكلية لله.
وهكذا نفهم الآيات التالية: (إن رسلنا يكتبون ما تمكرون). (يونس 21). (كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا). (مريم 79). هنا نلاحظ من مفهوم الكتابة أنه تصنيف أعمال الإنسان وأفعاله عليه. وقوله تعالى: (ونكتب ما قدموا وآثارهم). (يس 12). (والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم). (النساء 81). (بلى ورسلنا لديهم يكتبون). (الزخرف 80) .
ويجب علينا هنا أن نشرح مفهوم الإكراه. فالإكراه هو انخفاض الاحتمالات الممكنة للخيار الإنساني إلى الاحتمال الواحد فقط، فإذا كان يوجد خمر وماء للشرب فأصبح هناك خيار للإنسان في الشراب. ولكن إذا كان لا يوجد إلا الخمر وشربه الإنسان فهنا يدخل مفهوم الإكراه حيث أنا لإكراه موضوعيا هو وجود احتمال واحد للاختيار بغض النظر أذكر الإكراه علنا أم لم يذكر. وعندما ينخفض عدد احتمالات الاختيار الإنساني للاحتمال الواحد فقط فالعقيدة لإسلامية تقول لا ثواب ولا عقاب فإذا وضعتم علم الله ضمن الاحتمال الواحد فهذا يعني الإكراه ظاهرا أم مبطنا ويعني نقصان المعرفة لإكمالها.
أما قوله: (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم). (المزمل 20). فالطلب الذي طلبه الله من الرسول في قوله: (يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا). (المزمل 1-4). هو طلب لا يتعلق بالصلاة أو قيام الليل في العبادات وقد حاولا لنبي فعل ذلك ولكنه لم يستطع علما بأن هذه الآيات جاءت في أوائل التنزيل حيث لا صلاة ولا صوم ولو أخذنا الآية /20/ من سورة المزمل وهي آية مدنية أي نزلت بعد نزول أوائل السورة بأكثر من عشر سنوات وهي: (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار).
لتبين أن الطلب الذي طلبه غير قابل لأن يعقل ضمن المستوى المعرفي لعصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لذا قال: (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم). وهنا الهاء في قوله "تحصوه". تعود على "الليل". وطلب عوضا عن ذلك فهم ما تيسر من آيات القرآن وليس كل القرآن. هنا القراءة لا تعني التلاوة. وإن إحصاء الليل وتفهمه ودراسته تحتاج إلى تفرغ وإن كثيرا من الناس منهما لمريض، وآخرون يزاولون مهنهم للعيش "العمال"، وآخرون مجندون للقتال "الجند" فاستعاض عن ذلك بفهم شيء من القرآن وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخير حيث قال: (علم أن سيكون منكم مرضى…الآية). (المزمل 20) .
أما قوله: (علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا). (البقرة 235) فقد وضع صيغة "ستذكرونهن". بصيغة المستقبل للجمع حيث أن هذه الآية وردت للنساء الأرامل وهن أثناء العدة، وذكرهن أثناء فترة العدة هو أحد الاحتمالات الواردة والمعروفة سلفا.
أما قوله: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون). (الأنفال 22). (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون). (الأنفال 23). هنا وصف الله الذي لا يعقل بأنه دابة، بل من شر الدواب وقد ربط العقل بحاسة أساسية من الحواس وهي السمع. وهنا استعمل شر الدواب استعمالا مجازيا، علما بأنه يتكلم عن بعض الناس وقد استعمل السمع استعمالا مجازيا بمعنى الفهم كقوله: (سمعنا وأطعنا). لذا قال: (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم)، أي في علم الله المسبق إذا اختار الإنسان الكفر وصم أذنيه عن غير ذلك فلا فائدة من إفهامه لذا أتبعها بقوله: (ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون). وهذه الآية هي علم مسبق على وجه العموم "كمال المعرفة في كلية الاحتمالات" ولا تعني أن أبا جهل منذ الأزل سيكون كافراً. ولكن عندما اتخذ أبو جهل هذا الموقف تم تصنيفه ضمن هذه الزمرة "أي تمت كتابة الكفر عليه".
وكذلك نفهم قوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا). (الأنفال 66). فقد جاء الآن بصيغة الحاضر و"علم" بصيغة الماضي. أي أن الضعف والقوة هي الاحتمالات الداخلة سلفا في علم الله، فانطبق أحد هذه الاحتمالات على المؤمنين فقال: (وعلم أن فيكم ضعفا). ووضعها في صيغة الجمع (فيكم ضعفا) إذ لا يمكن أن نفهم أن الله خفف الآن بعد أن علم، وكان قبل ذلك لا يعلم. كما وضع في صيغة الجمع (ستذكرونهن).

ثالثاً: قضاء الله
لقد جاء فعل "قضى" في الكتاب في المعاني التالية:
1 - قضى بمعنى "أخبر" كقوله تعالى (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا). (الإسراء 4) وقوله تعالى: (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين). (الحجر 66). وقوله: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر). (القصص 44) .

2 - قضى بمعنى "أمر" أي الأمر ضد النهي كقوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا). (الإسراء 23) .
3 - القضاء بمعنى إنهاء الشيء كقوله تعالى: (فوكزه موسى فقضى عليه). (القصص 15). وقوله: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر). (الأحزاب 23). وقوله: (أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي). (القصص 28) .
4 - قضى بمعنى الإرادة الإلهية النافذة وقد جاءت في قوله تعالى:
أ‌ - (سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون). (مريم 35) .
ب‌ - (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون). (النحل 40) .
ت‌ - (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون). (يس 82) .
ث‌ - (فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون). (غافر 68) .
إن بحثنا هو الحالة الرابعة التي هي قضاء الله حيث صاغه الله بصيغة ثابتة صارمة "يقول: نقول: كن فيكون". أي أن قضاء الله النافذ لا يأتي إلا من خلال كلماته: (قوله الحق). (يحق الله الحق بكلماته). وكلماته هي الوجود وقوانينه الموضوعية، (وكل شيء أحصيناه كتابا). (النبأ 29). أي أن قضاءه المبرم لا ينفذ إلا من خلال المقدرات: (وكان أمر الله قدرا مقدورا). (الأحزاب 38) .
وعندما أراد الله إهلاك عاد وثمود ومدين أهلكهم بقضائه، ولكن كان إهلاكه لهم عن طريق القوانين الموضوعية "كلماته" لذا قال عن هؤلاء الأقوام: (ولما جاء امرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ). (هود 58). وقوله تعالى: (فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز). (هود 66). وقوله: (قالوا أتعجبين من أمر الله). (هود 73) وقوله: (يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك). (هود 76) وقوله: (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود). (هود 82) وقوله: (ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه). (هود 94). وقوله: (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب). (هود 101) .
هنا نلاحظ كيف ارتبط (لما جاء أمرنا). بظاهرة من ظواهر القانون الموضوعي وهي الريح، الصيحة، الرجفة، الأحجار. أي أن هذا الأمر تم من خلال كلمات الله وهي من قوانين الربوبية بقوله عندما علق على كل القصص: (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك). (هود 101) .
لنلخص الآن آيات القضاء المبرم الذي هو أمر الله والذي هو كلمات:
"قضى أمرا + قولنا لشيء + إنما أمره + فإذا قضى أمرا" "يقول، نقول له كن فيكون". لاحظ القاسم المشترك بين هذه الآيات وهو فعل "يقول" وقوله الحق. هنا يجب أن نميز قضاء الله وأمره بإرادة مبرمة أي "قول" وبين أوامر الله والتي هي ضد النواهي والتي تعتبر موعظة ووصية وليست قولا.
فإرادة الله التي هي موعظة وأمر ضد النهي والتي هي علاقات روحية لا مادية أي علاقة تقوى جاءت في قوله تعالى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون). (النحل 1). (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده). (النحل 2) فأتبعها بقوله (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون). (النحل 2).
هنا نلاحظ كيف دمج أوامر الله التي هي ضد النواهي والتي لا يوجد فيها آية "كن فيكون" كيف دمجها مع الروح ووضع فيها التقوى. فالصلاة أمر ضد النهي لا قول وهي من التقوى لأنها ليست كلمة وكذلك بر الوالدين وبقية التعاليم يحق لا نجد في التعاليم كلمة "قال الله" أو "كن فيكون" لذا ميز الأوامر التي هي ضد النواهي بقوله "يعظكم، يأمركم، يوصيكم، والإرادة النافذة بقوله "قول، يقول، حقت كلمة ربك، فحق عليها القول" فمثال الأوامر ضد النواهي وليست قضاء مبرما "قولاً" أي ليست قانونا موضوعيا يعمل خارج الوعي وليست كلمات الله:
1 - (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). (النحل 90). لذا جاءت صيغة (يعظكم لعلك تذكرون).
2 - (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا). (الإسراء 16) لاحظ هنا الربط بين (أردنا) وبين (فحق عليها القول). وقوله: (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها). (هود 82). وبدون هذا التمييز بين أمر الله الذي هو ضد النهي "الروح" وبين أمر الله الذي هو قضاء مبرم والذي هو "القول" "الكلمات" "الحق" لا يمكن فهم أساس الأسس في العقيدة الإسلامية. فإذا حكم الناس إنسان ظالم لا نقول هذه إرادة الله وهذا قدر الله، والله قضى علينا بكذا وكذا. إن هذا الكلام مناف لأساس الأسس في العقيدة الإسلامية لأن هذا الأساس يقضي بأن المجتمعات الإنسانية تقوم على قوانين موضوعية هي كلمات الله. وعلى قوانين ذاتية تعتبر مواعظ الله ووصاياه جزءا منها.
فوعي هذه القوانين الموضعية هو الذي يعطينا حرية الحركة والتصرف ويزيل عنا مفهوما لجبرية من خلال فهم العلاقة الموضوعية إذ إن الله عندما أراد أن يهلك قوما أهلكهم من خلال تصرفه بهذه القوانين الموضوعية. والآن عندما تريد دولة أن تهلك دولة أخرى فإنها تفعل ذلك من خلال التصرف بهذه القوانين "الذرة –الصواريخ-الأزمات الاقتصادية"، والتزامنا الواعي بالوصايا والمواعظ هو الذي يحدد العلاقة الاجتماعية من خلال القانون الأخلاقي.
وعلينا أن نعرف أنه إذا تزوج زيد بزينب فهذا يعني أن الله لم يكتب منذ الأزل هذه الزيجة ولو كان الأمر كذلك لما جاء قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا). (الأحزاب 36) .
لو كان الأمر مكتوبا منذ الأزل لما قال: (الخيرة من أمرهم). ولما قال: (ومن يعص الله ورسوله). لأن هذا أمر ضد النهي لا أمر على أنه كلمة. وكذلك إذا ضرب زيد عمرا فلا نقول إنه مكتوب عليه لأن الله قدر الضرب على زيد وعمرو معا في وجود اليدين وإمكانية الضرب. فإذا اختار زيد الضرب فما على عمرو إلا أن يرد عليه أو يسامحه.
هكذا يجب أن نفهم معنى كيفية قضاء الله في أعمال الناس وأرزاقهم وأعمارهم وزيجاتهم.

الإذن والمشيئة:
قلنا إن قضاء الله نوعان: أمر ضد نهي جاء في أم الكتاب. وأمر شرطي نافذ جاء في القرآن والذي علق بقوله: (يقول له كن فيكون). أو (نقول له كن فيكون). أو (فحق عليها القول)، أو (تمت كلمة ربك). فقضاء الله النافذ قضاء غير أزلي، أي أن الله لم يقض منذ الأزل بهلاك قوم هود أو قوم صالح أو قوم نوح أو قوم شعيب لذا قال: (من قبل أن يأتيهم عذاب أليم). (نوح 1). أو (عذاب يوم محيط). (هود 84)، وأن الله لم يقض منا لأزل بزواج زينب من زيد لأنها تمنعت علما أن الرسول أخبرها بذلك لذا قال لها: (إذا قضى الله ورسوله أمرا). (الأحزاب 36)، و"إذا" هنا شرطية ولما يستقبل من الزمن لأنه كان لها الخيار ولو كان قضاء أزليا لما سئلت ولما أخبرت، وعندما يقضي الله قضاء نافذا فإن قضاءه ينفذ من خلال كلماته لذا وضع صيغة "القول" دائما، ففي هذا القول جانبان:
الجانب الأول: إطلاق الإرادة بقوله "كن" والثاني إطلاق القدرة بقوله "يكون" ولاحظ الفرق بين "كن" الآنية و"يكون"الزمنية ولوكان قضاء الله مبرما منذ الأزل لقال "فإنما يقول له كن فكان" وإنما جاءت "فيكون".
وهذا الإطلاق قابل للتغيير والتبديل بالدعاء لأنه ليس أزليا لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه إن صح "ردوا القضاء بالدعاء" وأما "اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه" فهي صيغة مشكوك فيها لأنها تناقض الصيغة الأولى والأصح أن نقول اللهم إنا لا نسألك رد القدر وإنما نسألك اللطف بنا، ومن هنا نفهم قوله تعالى في قوم يونس لما آمنوا بقوله: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لماآمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياةا لدنيا ومتعناهم إلى حين).
(يونس 98) هنا نلاحظ بشكل قطعي أن قضاء الله غير أزلي ويمكن أن يتغير بتغير أحوال الناس، لذا جاء الأنبياء والمرسلون منذرين للناس، ولو كان قضاء أزليا مبرما لأصبحت الرسالات والنبوات والدعاء ضربا من ضروب العبث حيث أن القضاء الأزلي هو في قوانين اللوح المحفوظ وليس الإمام المبين، وكذلك الآية: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض). (الأعراف 96). وكذلك قوم يونس كفروا فأنذرهم الله بالعذاب ثم آمنوا فرفع عنهم العذاب.
لذا فإن المقولة التي تقول إن قضاء الله النافذ بالنسبة للإنسان هو قضاء أزلي غير صحيحة فقضاء الله النافذ في الإنسان قضاء مشروط بموقف الإنسان ما عدا قوانين اللوح المحفوظ الأزلي وهي قوانين الوجود والتطور، ولكن عندما ينفذ قضاء الله فلا ينفذ إلا من خلال كلماته. أما قضاء الله الذي هو أمر ضد النهي فهو لا يحمل أي صفة من صفات الأزلية ولا يأي صفة من صفات المادية حيث أنه ليس بكلمات الله وإنما هو من الروح حيث جاء من العرش وليس من اللوح المحفوظ أو الإمام المبين.
والآن لنبحث في الإذن والمشيئة حيث جاءت هاتان الصيغتان في الكتاب "شاء الله، أذن الله":

الإذن:
جاء الإذن من "إذن" وهذا الفعل يعني في اللسان العربي إعلان الشيء وتأكيد الحصول والنفاذ. فعندما يخبرنا الله عن قانون موضوعي يعمل خارج الوعي يستعمل فعل "أذن" كقوله: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن اله كتابا مؤجلا). (آل عمران 145) أي أن إذن الله حاصل ونافذ لا محالة وهنا هو الموت. ولكن الإذن يتم موضعيا من خلال "كتاب" وهو كتاب الموت أي مجموعة الشروط الموضوعية التي إذا حصلت واجتمعت بعضها مع بعض حصل الموت لا محالة وهذه الشروط مؤجلة غير موقوتة ومن هنا جاء شرط طول العمر وقصره. أي أن الله أذن إذا بلغت جرارة جسم الإنسان /44/ درجة مئوية فما فوق ن يحصل الموت، وأذن إذا شنق الإنسان أن يحصل الموت، وأذن إذا قطع رأس الإنسان أن يحصل الموت… وهكذا دواليك.
لنأخذ الآن الآيات التالية التي فيها فعل "أذن" على أنه شيء لا محالة حاصل وأنه يجري من خلال قانون موضوعي مادي:
1- (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله). (غافر 78) .
هنا يبين بأن الآيات البينات التي يأتي بها الرسل تنفذ من خلال قوانين مادية لا محالة حاصلة، وأنه لا خرق لأي قانون من قوانين الطبيعة وأن الخرق هو فيا لمعرفة النسبية لدى الناس.
2- (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله). (آل عمران 166) .
-(إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون). (المجادلة 10) .
-(ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه). (التغابن 11). هنا يبين كيف أن الضرر والنفع والمصائب والنصر والهزائم لا تحصل إلا من خلال القوانين المادية الموضوعية لذا قال: (بإذن الله).
3- (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر). (القدر 4) .
-(قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله). (البقرة 97) .
قال "بإذن ربهم" لأن الملائكة حقيقة موضوعية مادية موجودة خارج الوعي وتنزل من خلال قوانين موضوعية ثم عطف جبريل عليها.
4- (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه). (البقرة 255) .
- (ما من شفيع إلا من بعد إذنه). (يونس 3) .
- (يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه). (هود 105) .
- (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن). (طه 109) .
- (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له). (سبأ 23) .
- (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا). (النبأ 38) .
هذه الآيات عن الشفاعة وعن الكلام في غاية الأ÷مية لأنها جاءت مع فعل "أذن" أي أنه إذا أذن الرحمن لأحد بالكلام أو الشفاعة يوم القيامة فهذا يعني أنه يستطيع الكلام والشفاعة فيزيائيا، وإذا لم يأذن فهذا يعني أنه لا يستطيع الكلام فيزيائيا كأن يصبح أبكم أي بمجرد لفظه الكلام فهذا يعني أن الرحمن أذن له وإذا استطاع الكلام بالشفاعة فيزيائيا فهذا يعني أن الرحمن أذن له، لذا قال في سورة (المرسلات 36). (ولا يؤذن لهم فيعتذرون). أي انهم موضوعيا لا يستطيعون أصلا الكلام ليعتذروا.
5 - (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله). (البقرة 102) .
- (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله). (البقرة 249) .
- (فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت). (البقرة 251) .
- (فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله). (آل عمران 49) .
- (وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله). (آل عمران 49) .
- (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه). (الأعراف 58) .
- (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله). (إبراهيم 11) .
- (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها). (إبراهيم 25) .
- (ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه). (سبأ 12) .
- (ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله). (فاطر 32) .
هذه الآيات تبين أن النفع والضرر والنصر والهزيمة للجن والإنس ومعجزات الأنبياء لا تحصل إلا من خلال القوانين الموضوعية المادية كنبات الشجر.
وعندما أراد الله أن يعاقب بني إسرائيل من خلال القوانين التاريخية الموضوعية النافذة قال: (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم). (الأعراف 167) .
وعندما أراد الله أن يبين أن الربا حرام قال في حقه (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله). (البقرة 279). والحرب جاءت من فعل "حرب" وهي تعني السلب والنهب في الأموال والممتلكات أي أن سلب ونهب المال لا محالة حاصل من قبل الله في حال الربا وذلك من خلال قوانين الوجود الموضوعي.
أما المعنى الثاني لفعل "أذن" هو الإعلان والموافقة، فقد جاء في الآيات التالية:
1 - (وأذن في الناس بالحج). (الحج 27) .
2 - (وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم). (التوبة 90) .
3 - (فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم). (النور 28) .
4 - (فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله). (النور 62) .
5 - (فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا). (التوبة 83) .
6 - (إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون). (النور 62) .
7 - (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر). (التوبة 3) .
8 - (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم). (النور 58) .
هنا نلاحظ كيف ن الإذن بمعنى الموافقة والإعلان جاءت في آيات أما لكتاب وكيف أن الإذن بمعنى القانون الموضوعي النافذ جاءت في القرآن وتفصيل الكتاب.

- المشيئة: "شاء الله":
إن إذن الله لا محالة حاصل من خلال قانون موضوعي نافذ كالموت والنصر والهزيمة…الخ لذا فهو لا يحتمل إلا وجها واحدا من النفاذ في حال وجوه. أما المشيئة فتحتمل الوجهين الإيجابي والسلبي كقوله:
- (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير). (آل عمران 26) .
- (وترزق من تشاء بغير حساب). (آل عمران 27) .
- (وتهدي من تشاء). (الأعراف 155) .
- (إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء). (الأعراف 155) .
- (نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم). (الأنعام 83) .
- (قل إن الفصل بيد الله يؤتيه من يشاء). (آل عمران 73) .
هنا نلاحظ الإذن والمشيئة في آية واحدة، فالوحي يحدث من خلال قوانين نافذة أما ما يوحى به لأحد من الناس فشرطي يحتمل عدة أوجه، لذا قال (ما يشاء).
- (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده). (الأنعام 88) .
فعندما قال: (يهدي به من يشاء). فهذا يحتمل الوجهين: الإيجاب أو النفي لذا وضعها مفتوحة وذلك لأنه جعلها مشروطة بأعمال الإنسان كقوله: (والله لا يهدي القوم الظالمين). (البقرة 258) .
لذا قال: (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب). (الرعد 39). فأحكام أم الكتاب حصل فيها تطور بين نفي وإثبات حسب التطور التاريخي لذا قال: (ما يشاء). فعندما تستعمل كلمة "شاء" يجب أن تفهم أنها تحتمل الوجهين أي أنا لمشيئة ظرفية مرتبطة بموقف الإنسان أو الموقف التاريخي لذا قال:
- (لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون). (الواقعة 65) .
- (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين). (الأنعام 149). ولكنه لم يشأ ولم يهد الناس أجمعين.
- (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة). (النحل 93). ولكنه لم يشأ وليس الناس أمة واحدة.
(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) (هود 118) .
ولكن لم يشأ ولم يجعل الناس أمة واحدة. لذا فعندما نقول إن زيدا سيذهب غدا إلى الطبيب فإن ذهابه سيحتمل الوجهين: الذهاب أو عدم الذهاب فيقول: إني ذاهب غدا إلى الطبيب إن شاء الله. ولكن إذا أخذ زيد حبة من الإسبرين من أجل الصداع فيقول: فيها الشفاء بإذن الله لأنها تحتمل الوجه الواحد وهوا لتفاعل وتسكين آلام الرأس.
وكذلك قوله: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). (الكهف 29). هنا وضع الكفر والإيمان في المشيئة "مشيئة الإنسان" ولم يضعهما في الإذن لأن عقيدة الإنسان تحتمل الوجهين الإيمان والكفر وله الخيار فيهما.
وننتقل الآن إلى:
تأويل قوله تعالى:
(إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير). (لقمان 34) .
إن تأويل هذه الآية يؤكد بشكل قطعي وجازم أن الأعمال والأرزاق والأعمار غير محددة سلفا وذلك حسب التأويل التالي:
قلنا إن القرآن المجيد في اللوح المحفوظ وهو مجموعة قوانين الطبيعة العامة الصارمة الجازمة ومنها قوانين الجدل المادي "التطور وتغير الصيرورة" وقوانين جدل الإنسان، وإن أي حدث بعد حصوله يتم تسجيله في الإمام المبين، لذا جعل "الكتاب المبين وكتاب مبين" جزءا من القرآن العظيم، ولا يوجد أي استثناءات منها لأحد، ومطلوب منا وعيها ومعرفتها.
ومن خلال وعينا لهذه القوانين تزداد حرية التصرف هذه. ويجدر بنا هنا أن نقارن بين هذين المفهومين: المفهوم الأول: الوجود المادي الموضوعي الصارم. والثاني: حرية التصرف من قبل العاقل بهذه القوانين ومن أجل هذا نضرب المثال التالي:
يوجد في كل من الدولتين العظميين في العالم مجموعة من الأسلحة المدمرة والصواريخ مختلفة الحجوم والمدى. هذه الصواريخ موجودة وكل شيء فيها مبرمج سلفا: الاتجاه، القوة التدميرية، آلية الانطلاق، مكان الوصول. ولكن هناك شيئا واحدا فقط غير مبرمج سلفا هو موعد إطلاق هذه الصواريخ غذ أن هذا الموعد مرتبط بأعلى قيادة سياسية في الدولتين، مثلا الرئيس الأمريكي والأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي. والقيادة السياسية في كلتا الدولتين تتصرف وفق أحد الاحتمالين التاليين:
أ‌ - إما أن تتصرف حسب الأحوال السياسية الدولية وحسب تصرف الدولة الأخرى وتقرر أن تطلق أو لا تطلق.
ب‌ - أن تضع توقيت إطلاق الصواريخ عندها حصرا، ولا تظهر هذا التوقيت إلا بغتة وبشكل مفاجئ.
لقد وضع الله عنده هذين الاحتمالين معا بعد أن خزن قوانين الكون العامة سلفا في اللوح المحفوظ وأبقى لنفسه حرية التصرف في هذه القوانين. هذه الحرية تحتوي على الاحتمالية، إما حرية ظرفية، أي الاحتمال الأول، وإما حرية التصرف مع التوقيت، أي إظهار الحدث بشكل مفاجئ. فعلى هذا الأساس لنحلل هذه الآية بندا بندا:
1 - (إن الله عنده علم الساعة): لقد برمج الله أحداث الساعة سلفا في اللوح المحفوظ، وقد وصف لنا ما هي أحداث الساعة وماذا سيحصل في هذا الكون لامادي حين تقوم الساعة ولكن لم يضع توقيت قيامها في اللوح المحفوظ، واحتفظ به لنفسه لذا قال: (عنده علم الساعة). لنقارن هذه الآية مع قوله تعالى: (وعنده أم الكتاب). (الرعد 39). أي أن أم الكتاب هي أمر ظرفي قابل للتبديل وغير محددة سلفا "الاحتمال الأول". أما الساعة فتخضع للاحتمال الثاني لذا قال: (لا يجليها لوقتها إلا هو). (الأعراف 187). وقال أيضا: (لا تأتيكم إلا بغتة). (الأعراف 187) .
حيث أن توقيتها عنده فقط كأم الكتاب، وقد قلنا إن أم الكتاب هي كتاب الله لذا قال: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون). (الروم 55). (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوما لبعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون). (الروم 56). هنا نلاحظ الناحية المهمة جدا كيف قال: (لقد لبثتم في كتاب الله). ولم يقل في القرآن و في اللوح المحفوظ أو في الكتاب.
هنا يجب علينا أن نفهم تماما ما يلي: يقول علماء الفلك والكوسمولوجيا حسب الدراسات العلمية إن الشمس ظهرت منذ كذا مليار سنة وإنها ستخبو وتنطفئ بعد كذا من الوقتـ، فظن البعض أن انطفاء الشمس وزوالها هو الساعة، وأخذ البعض نظرية الكون النابض بأن هذا الكون آخذ في الاتساع فإنه سيأتي زمن يبدأ فيه بالانقباض ليرجع إلى نقطة الصفر، وظن البعض أن هذه هي الساعة. وهذا كله غير صحيح مع أننا لا نشكك مطلقا بالدراسات الفلكية والكوسمولوجية، ولكننا نشك بربط هذه الأحداث بالساعة، حيث أن الساعة هي حدث كوني مفاجئ تماما "تسارع في تغير الصيرورة". (نفخ في الصور). وغير متوقع (لا تأتيكم إلا بغتة).
ولا يمكن التنبؤ بزمن حدوثه أبدا (لا يجليها لوقتها إلا هو). وقد أعطى الله سبحانه وتعالى أشراط الساعة في عدة أماكن لذا قال: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها). (طه 15). هنا (أكاد أخفيها). بمعنى "أكاد أظهرها" أي لم يظهرها ولكنه اقترب من إظهارها بقوله: (فقد جاء اشراطها). (محمد 18). ولو أن توقيت الساعة مخزن في اللوح المحفوظ أو إمام مبين "القرآن" لأمكن للعلماء في المستقبل تحديد توقيتها بكل دقة، حتى دقة الثانية، ولكنها ليست كذلك.
2 - (وينزل الغيث): لقد حدد الله سلفا، القوانين الموضوعية مثل قوانين تشكل البخار وتشكل الغيوم المشكلة للمطر، ولكنه لم يحدد سلفا كمية المياه التي ستنزل على كل كيلومتر مربع من سطحا لأرض، ولو حدده سلفا لأمكن للعلماء في المستقبل تحديد كمية الأمطار التي ستهطل في مساحة ما على سطح الأرض ولو بعد ألف سنة لذا فإن الإنسان يستطيع أن يقلد تشكيل الغيوم من خلال قانون التبخر ويستطيع أن يسوق هذه الغيوم في المستقبل ولو جزئيا لتنزيل المطر في منطقة ما لأنها غير محددة سلفا في اللوح المحفوظ. ومن هنا نعرف معنى صلاة الاستسقاء والدعاء لله سبحانه وتعالى بإرسال الغيث لأنه لو كانت كميات الأمطار التي ستهطل في كل منطقة إلى أن تقوم الساعة محددة سلفا ومبرمجة مسبقا لأصبح الدعاء لله بتنزيل الغيث ضربا من ضروب العبث.
3 - (ويعلم ما في الأرحام): لقد برمج الله سبحانه وتعالى سلفا في اللوح المحفوظ قانون الزوجية واللقاح وأنه عندما يلقح أي حيوان منوي أية بويضة فسيحصل الحمل ويتشكل الجنين. كل هذا ضمن قوانين صارمة هي قوانين الجينات والوراثة ولكنه لم يبرمج في اللوح المحفوظ سلفا من سيتزوج من. أي أننا نحن البشر غير مبرمجين سلفا في اللوح المحفوظ ولكن المبرمج هو قوانين الحياة والموت والوراثة والجنين البشري أما تحويل البشر إلى إنسان فقد جاء من الله مباشرة، لذا فلا نقول إن فلانة من نصيب فلان منذ الأزل. لذا قال سبحانه وتعالى: (لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور). (الشورى 49). (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير). (الشورى 50) . لاحظ هنا قوله "يشاء". ولم يقل "يأذن"، لنعلم بشكل جلي أن عدد الذكور والإناث لكل إنسان غير مبرمج سلفا وكذلك الزيجات لذا فالدعاء له معنى كقوله: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق). (إبراهيم 39). من هنا نستنتج ما يلي: بما أن نوع الجنين غير محدد سلفا في اللوح المحفوظ أذكر هو أو أنثى، وبالتالي فإن استطاعة الطب تحديد وتوجيه نوع الجنين سلفا أذكر هو أو أنثى ومعرفة نوع الجنين وهو في رحم الأم. ولكن ليس باستطاعة الطب خلق جنين بدون لقاح حيوان منوي مع بويضة.
ولو كان كل شيء مبرمجا سلفا في اللوح المحفوظ لأمكن معرفة من سيتزوج فاطمة لحظة ولادتها وعدد الأولاد الذين ستنجبهم، ولكن هذا مستحيل لأنه غير مبرمج وإنما يحدد من خلال الشروط الظرفية "المشيئة".
4 - (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا): هنا يؤكد بشكل قاطع أن اختيار الإنسان لأعماله غير محدد سلفا في اللوح المحفوظ، وإلا فإن العلم سيعلم في المستقبل ماذا سيفعل كل إنسان غدا. هذا العمل مفتوح تماما للإنسان، ويمكن لكل إنسان أن يختار أعماله بنفسه لأنها غير محددة له سلفا، والأرزاق غير محددة سلفا لكل إنسان والله يتدخل فيها تدخلا شرطيا غير مسبق "المشيئة".
5 - (وما تدري نفس بأي أرض تموت): هذا مجمل للآيات التي تقول إن أعمار البشر غير محددة سلفا في اللوح المحفوظ، ولو كانت أعمارهم محددة سلفا منذ بداية الخلق لأمكن في المستقبل معرفة عمر كل إنسان من لحظة ولادته، وهذا مستحيل لأنه غير مبرمج سلفا، وفي هذا قال الله سبحانه وتعالى عن معركة بدر (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم). (الأنفال 17) فلو كانت أعمارهم مبرمجة ومحددة سلفا لأصبح قوله "ولكن الله قتلهم" غير ذي معنى. ولكن الله حدد سلفا القوانين الموضوعية التي تحدد الحياة والموت وتحدد قصر العمر وطوله ولنا نحن البشر التصرف بها حسب معرفتنا النسبية لها، والله يتدخل فيها تخلا شرطيا "المشيئة".
لذا فإني أقول وأدعو لنفسي وللقارئ بأن يطيل الله أعمارنا ويحسن أعمالنا، وأن يتدخل تدخلا شرطيا فيستجيب.

القضاء والقدر والحرية:
قلنا إن قانون الزوجية بين الأشياء وصراع المتناقضات في الشيء الواحد هما القانونان الأساسيان لجدل الأشياء، وغن ظواهر الطبيعة تقوم على الأضداد. إن الفكر الإنساني يقوم على صراع نقيضين هما الرحمن والشيطان "الحق والباطل" والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية هي من الظواهر، فتقوم على الأضداد في مظهرها وعلى التناقضات في محتواها.
وبما أنا لفكر الإنساني عبارة عن ظاهرة تقوم على الأضداد في مظهرها وبالتالي فالحرية الإنسانية ظاهرة تقوم على الأضداد وجدلها والحركة الواعية بين النفي والإثبات بين ضدين، وهذان الضدان متكافئان بين النفي والإثبات كالشهيق والزفير والليل والنهار في ظواهر الطبيعة، ونعم ولا في السلوك الإنساني، والكفر والإيمان في العقيدة، فلا أحد منهما يغلب الآخر وينفيه بشكل مستمر، وفي هذا التكافؤ يكمن سر الحرية الإنسانية، إذ أن الظواهر الموضوعية للطبيعة فيها النفي والإثبات. وظواهر الحرية الإنسانية فيها النفي والإثبات "نعم، لا" بشكل متكافئ، فلا الكفر يغلب الإيمان بشكل مستمر ويسيطر على كل أهل الأرض، ولا الإيمان يغلب الكفر بشكل مستمر ويسيطر على أهل الأرض، وهذه الظاهرة في جدل الإنسان نعمل بها نحن المسلمين على أنها من سنن الله في خلقه في قوله (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين). (يونس 99) . ولكي يبين التكافؤ بين النفي والإثبات في جدل الإرادة الإنسانية أورد الكتاب هذا الجدل في الإرادة الإلهية حيث وضعه بشكل متكافئ وذلك في قوله: (ولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب). (آل عمران 27). هنا نلاحظ كيف وضع النفي والإثبات بشكل متكافئ وذكر قبله ظاهرة من ظواهر الطبيعة وهي الليل والنهار حيث استعمل فعل (تخرج) لحالة النفي والإثبات معا أما في جدل الأشياء فقال (إن الله فالق الحب والنوى). (الأنعام 95). فاستعمل صيغتين "يخرج، ومخرج" وذلك لاستبعاد قضاء الإنسان.
حيث أن الموت في جدل الأشياء هو دائما المنتصر النهائي. وكذلك وضع الصيغة المتكافئة للنفي والإثبات في القضاء الإلهي في الظواهر في قوله: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون). (يونس 31). هنا نلاحظ كيف أنهى الآية بقوله: (ومن يدبر الأمر). وذكر فيها عملية الرزق، لا الرزق نفسه، وذكر ظاهرة السمع والبصر وليس الأذن والعين.
وقبل أن ندخل في تعريف الحرية علينا أن نحدد بعض الظواهر التي تدخل في مركبات الحرية الإنسانية بشكل مباشر والتي حصل فيها التباس كبير وهي عمر الإنسان ورزقه وعمله لأن هذه العناصر الثلاثة لها علاقة مباشرة بالحرية الإنسانية، هل هي مكتوبة عليه سلفا "محددة"؟ أي هل مقدر على زيد منذ أن يولد أو منذ الأزل عمره ورزقه وعمله؟ أم أن الأعمار والأرزاق والأعمال مقدرات احتمالية، وبالتالي فالأعمار والأرزاق والأعمال تصبح غير ثابتة ولكنها مقدرة على وجه العموم. كيف تطول الأعمار وتقصر وكيف تتسع الأرزاق وتضيق، وما هي الأعمال التي يمكن أن يقوم بها الإنسان موضوعيا، والإنسان يختار منها حسب معارفه واجتهاداته .