الثلاثاء، 10 نوفمبر 2009

القرآن يضم نظرية للمعرفة الإنسانية

القرآن يضم نظرية للمعرفة الإنسانية


لا أكون مبالغاً إذا قلت إن مأساة الفكر الديني الإسلامي السلفي الراهن، كامنة في أنه لا يؤمن بأن الثقافة صيرورة تتشكل عبر جيل أو جيلين، وفي الوقت نفسه هي سيرورة عبر الأجيال. بمعنى أن هذا الفكر ما زال يعتقد أن الثقافة تكونت مرة واحدة وإلى الأبد. وكي أضع النقاط على الحروف أقول إن مشكلة الفكر السلفي الإسلامي الراهن تكمن في أنه ما زال أسير فهم التراثيين للنص، وبالتالي هو أسير المنظومة المعرفية التي بدأت تتشكل في القرنين الثاني والثالث الهجريين متبلورة في القرن الرابع الهجري.
قد يكون ما ذكرته آنفاً مأزقاً من مآزق الفكر الديني، سواء اعترف أهل ذلك الفكر بهذا أم لم يعترفوا. وبما أنني ما زلت في سياق الحديث عن هذا الفكر لا بد من الإشارة إلى أنه من خلال ماضويته المنغلقة يكون قد آمن بأن الحقيقة تكمن عنده لا عند غيره، وبالتالي يكون قد ألغى من فضائه الفكري ونهائياً المفهوم الحقيقي للحقيقة، ذلك المفهوم المتجلي في ما ورائيتها، أي إن الحقيقة هي دائماً وأبداً مطلب ما ورائي، ولو كانت تكمن عند قوم دون قوم لما كان ثمة مبرر للتطور والتقدم! وربما لأن ذلك الفكر يؤمن أشد الإيمان بأنه يضع يديه على "حقائق" الأولين والآخرين توقفت عجلة العقل العربي عند العتبة الثقافية للقرن العاشر الميلادي/الرابع الهجري، وهذا حقيقة ما نعيشه اليوم في عالمينا العربي والاسلامي نتيجة ذلك الفهم الخاطئ للثقافة أولاً، وللإسلام ثانياً. لماذا هذه المقدمة؟
حقيقة أردت من هذه المقدمة أن أرسم صورة موجزة عن الفضاء الفكري للتيار الديني السلفي بكل أطيافه وألوانه مهما اختلفت تلك الأطياف وتباينت هذه الألوان، ذلك باعتباره الفكر المهيمن على الساحة الثقافية والفاعل في المجال السياسي والجهادي/النضالي، وما فاعليته هذه وحضوره ذاك بسبب من جدوى فاعليته الفكرية وعصريتها ومقدرتها على الاستمرار، بل ببساطة بسبب من غياب البديل الفكري، فضلاً عن أن تلك العودة السلفية ما هي إلا التعبير الأمثل عن حالة اليأس والقنوط التي تمر بها المجتمعات الإسلامية، واليأس ولّد بدوره نكوصاً وما النكوص سوى آلية من آليات الدفاع النفسية.
انطلاقاً من تلك الصورة التي رسمتها والتي قد تكون سوداوية، يلمع اسم محمد شحرور كحامل لمشروع نهضوي اسلامي معاصر بامتياز، متسلحاً بعدة ثقافية عصرية شبه كاملة، ومزوداً بقراءة نقدية متفهمة وفاهمة ومستوعبة للتراث وما انطوى عليه من قراءات للنص وفهم للإسلام.
لا أنكر أنني لم أستطع الإلمام بجوانب فكره، ربما لضحالة ثقافتي وشحّ معارفي، أمام ما يطرحه من رؤى وأفكار، ما اضطرني لقراءة كل ما كُتبَ من كُتبٍ ترد على كتابه (الكتاب والقرآن) وعددها (13) كتاباً، على الرغم من هذه الوفرة العددية "النقدية" فجعت بالمستوى الذي انحطت إليه لغة النقد، خاصة ممن اختصاصهم علم الأديان المقارن، ومن حاول منهم الارتقاء بنقده إلى مستوى الموضوعية النقدية، فشل في أن يرتقي إلى مستوى فكرية شحرور، وهنا تكمن مأساة الأخير، إذ كل ما فعله من توهم أنه انتقد هذه الرؤى والأفكار والظاهرة الشحرورية المعاصرة أن قام بتلخيص للثقافة التراثية وإرهاق للقارئ بقراءتها من جديد، كأننا بعجلة الفكر الإنساني، والإسلامي من ضمنه، توقفت عند التراثيين وفهمهم للنص!؟ متوهمين أن تلك القراءات وذلك الفهم سرمديان، ونحن ملزمون بهما!!

وهنا جانب من الحديث:

دعنا نبدأ بما ورد في كتابك (الكتاب والقرآن) تحديداً في بحث قواعد التأويل، ذلك في معرض تأويلك الآية الكريمة: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) (7 ­ آل عمران)، بمعنى أن الراسخين في العلم يعلمون ما هي النظريات والحقائق العلمية التي يمكن استنتاجها من الآية القرآنية، إذ يمكن استنتاج نظريات علمية جديدة تعتبر قفزات هائلة في المعرفة الإنسانية.
هل يعني كلامك هذا أن كتاب الله كتاب في الفيزياء أو الرياضيات، ومن ثمَّ يحوي معادلات وقوانين... الخ، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أنك تقول في غير مكان من الكتاب نفسه (الكتاب والقرآن) إن المكتشفات العلمية والمنجزات التكنولوجية والنظريات الحديثة المكتشفة هي بصائر لآيات القرآن ودليل عليها... ومهما اكتشف الانسان من قوانين الطبيعة لن نجد ذلك يتناقض مع مضمون القرآن كقرآن، حسب مفهومك طبعاً؟

أولاً: القرآن ليس كتاباً في الكيمياء ولا في الفيزياء والرياضيات. ثانياً: الآيات القرآنية ليست دليلاً علمياً، وإنما هي دليل إيماني، ولو كانت دليلاً علمياً فهذا يعني بمجرد أن تتلو الآية على أي إنسان يقبل بها حالاً! كأن تقول إن للأرض جاذبية، هذه حقيقة علمية لا يتجادل فيها عاقلان. لكن يجب على أتباع الرسالة المحمدية تقديم الدليل العلمي على مصداقية الآيات من خارج القرآن، وهنا يأتي دور العلم في الفيزياء والرياضيات والكيمياء لإعطائنا المعلومات الأساسية التي من خلالها يمكن أن نفهم الآيات.
القرآن يتضمن نظرية في المعرفة الانسانية، وما أقصده بهذه المعرفة هو العمود الفقري للفلسفة ولنظرية المعرفة في آن، مع إدراكنا أن المعرفة الانسانية هي العلاقة بين الوجود في الأعيان والصور الموجودة في الأذهان.
انطلاقاً مما ذكرت نستطيع القول إن القرآن يتضمن نظرية تتيح للذي يمسك بها أن يعمل في الرياضيات والفيزياء والكيمياء... انتبه لا أقول علوم فيزياء، بل أقول إن هذه النظرية في المعرفة الانسانية والموجودة في القرآن نستطيع من خلالها اكتشاف الذرة وغزو الفضاء.

هل نفهم من هذا أن القرآن ينطوي على فلسفة، انطلاقاً من أن الفلسفة أم العلوم؟
أصولاً إذا قلت غير هذا يكون كلامك أو استنتاجك خاطئاً!؟ مشكلة العرب أنهم كانوا أهل بيان لا أهل فلسفة، ومشكلتهم أيضاً أنهم لم يأخذوا أي اتجاه فلسفي من الاسلام، ومع الأسف أن البعض أو الأكثرية من الموجودين الآن يعتبرون أن الفهم الصحيح للاسلام هو فهم صدر الاسلام، وهذا الكلام أو المنطق مرفوض.

لماذا؟
لأن علينا أن نميز بين نوعين من الإيمان: أ ­ الايمان التسليمي؛ ب ­ الايمان التصديقي. مثلاً أنا أسلّم بأن الله واحد أحد، وأسلّم باليوم الآخر، علماً بأنني لا أملك دليلاً أو برهاناً علمياً على هذا. في المقابل أنا أصدّق أن محمداً رسول الله ولا أسلّم بهذا، هذا ايمان التصديق.
لأشرح لك المسألة: مثلاً إذا جاءك شخص في بداية القرن العشرين وقال لك: إن عام 2000 سيشهد وصول جورج بوش إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية، من الطبيعي حينها أن جزءاً من الناس سيصدق هذا القول وآخر سيكذبه، لكن الناس كلهم سيصدقون هذا القول في عام 2000 عندما يصبح بوش قد صار رئيساً للولايات المتحدة، وسيقول الناس صدقت نبوءة فلان، هنا يصبح الإيمان تصديقياً لا تسليمياً. من منظار آخر نستطيع القول إن كل المعجزات التي جاء بها الأنبياء سابقاً، كشق البحر مع موسى مثلاً، هي إيمانٌ تصديقي للذين شاهدوها، أما بالنسبة لنا فهي إيمان تسليمي. الأمر نفسه بالنسبة لإيمان الصحابة بنبوة محمد، إذ كان إيماناً تسليمياً، أما بالنسبة إلينا نحن فيجب أن يتحول بوساطة المعارف الجديدة والعلوم الحديثة إلى إيمان تصديقي. وهذا ما يفسر لنا قوله تعالى: (والسابقون السابقون. أولئك المقربون. في جنات النعيم. ثلّة من الأولين. وقليل من الآخرين) (الواقعة 141). السؤال هو: من هم السابقون؟ قطعاً هم الصحابة الذين قالوا صدّقنا وإن لم يروا شيئاً، والمقصود بالآخرين هنا هم أولئك الذين يأتون كلما تقدم الزمن ومع ذلك يؤمنون على طريقة الأولين، وسيكونون قلّة، وهنا يجب علينا الانتباه، بمعنى ليس المؤمنون قلّة بل المؤمنون على طريقة الأولين هم القلّة.

في بحث قواعد التأويل كذلك تقول: إن الانتباه لمواقع النجوم في الكتاب كله هو مفاتيح تأويل القرآن وفهم آيات الكتاب كله. تُرى هل أوحيت هذه المواقع للنبي بحيث نقلها إلى كتبة وحيه أثناء حياته؟ أم أنها وضعت كاصطلاح أثناء جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان؟ وهل يمكن اعتبار النجوم علامات ترقيم خاصة بالقرآن في ظل غياب علامات الترقيم الأخرى؟
من ثمَّ تقول إن ترتيب الآيات في القرآن توقيفي، إن كان لهذا ال (التوقيفي) من معنى تريده، نرجو إيضاحه؟

بداية علينا التمييز بين الجملة والآية، وأرجو أن نوفق في شرح هذه النقطة.
الله إلى الآن يتحدانا (بسورة من مثله) (البقرة، 23)، ويتحدانا بعشر سور (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) (هود، 13)، وقد مضى على هذا التحدي أربعة عشر قرناً، بعد هذه المدة يأتي محمد شحرور ويقول: أنا قبلت التحدي، لكن عليكم إعطائي المواصفات الفنية للسورة، ما هي السورة؟ ثمة في الكتاب سورة مكوّنة من 282 آية، وسور من ثلاث آيات! فما هي مقومات السورة؟ أصولاً لا أحد يعرف ما هي مقوماتها! الآية ليست جملة، مثلاً:
(والفجر. وليال عشر. والشفع والوتر) (الفجر 1-3)، هذه كلها آيات بلغة عربية صحيحة لكنها ليست جملاً مفيدة.
أما بالنسبة إلى مواقع النجوم، فلا يسعنا كعرب إلا الوقوف عندها (مكرراً بثقة) لا يمكننا إلا أن نقف عندها. مثال قوله تعالى: (قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون)(هود 54).
انتهت الآية، الآية التي تليها تبدأ بقوله تعالى: (من دونه ...) (هود 55)، تُرى لماذا انتهت أو انقطعت الآية (54 - هود) قبل أن يتم المعنى؟ لا شك في أن القارئ أو الباحث قد يستغرب ترتيب الآيات ووضع النجوم وترتيب السور خلافاً لنزولها، لكن استغرابه يزول حين يعرف أنها توقيفية.

برأيك ما مبرر هذه التوقيفية؟
لأنها أمر من الرسول إلى كتبة الوحي! وللبرهان على هذا، أن الرسول كان يدقق على كتبة الوحي (من المعروف أن الرسول لم يكن أميّاً بالمعنى المتداول، حسب القراءة المعاصرة لشحرور) ما يكتبونه، سأضرب بعض الأمثلة (ألم) في بداية البقرة والعنكبوت والروم ولقمان يوجد بعدها نجمة وتعتبر آية، أما: (ألر) في بداية سورة الحجر فلا يوجد بعدها نجمة ولا تعتبر آية. تُرى ما الذي أدرى كاتب الوحي بهذا لو لم يكن أمراً من الرسول ذاته؟! مثال آخر: يقول الله في سورة يس: (يس * والقرآن الحكيم) (يس 221). وكتبها الكتبة بالياء والسين، أما في سورة الصافات فترد كلمة ياسين في قوله تعال: (سلام على آل ياسين) (الصافات 130)، وكتبوها بالشكل اللغوي المتداول والمتعارف عليه. السؤال ما الذي أدرى كتبة الوحي أن الكلمة ترد على هذا النحو لا على ذاك لو لم يكن الرسول أمرهم بذلك!؟
أما في ما يخصّ مواقع النجوم، فعلينا بداية أن نشرح معنى النجوم لغة. يُقال في اللسان العربي: أعطاني المئة ليرة، فرددتها له منجمة. ومعنى منجمة هنا، مقطّعة، أي رددتها بالتقسيط. هذا هو التنجيم، وليس كما يعتقد البعض لأنهم يرسمون نجمة، بل لأن الآيات مقطّعة.
قال تعالى: (والنجم إذا هوى * ما ضلّ صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) (النجم 1-4). تُرى ما هي العلاقة بين قوله: (والنجم إذا هوى) (النجم 2)، وقوله (إن هو إلا وحي يوحى)؟ قال المفسرون النجوم الهاوية هي الشهب والنيازك، وهذا غير صحيح، لأن العلاقة تنعدم بين النجم حين يهوي والجزم بأن التنزيل وحي يوحى. انطلاقاً مما ذكرت قلت إن النجوم هي المواقع بين الآيات، وفي حال نزلت أو هوت نجمة ووصلت بين آيتين ببعضهما يكون آنذاك الخبر صادقاً، وهذا لا يفعله إلا مؤلّف الكتاب.

يلاحظ القارئ لكتبك استخدامك لمصطلحات باللغة الانكليزية أثناء الشرح، مع أننا في الوقت نفسه نلمس إلمامك الجيد باللغة العربية، إذ تستخدم مفرداتها بحذاقة، وتمتلك القدرة على تصيد المفردات العربية التي توصل المعنى المراد إيصاله للقارئ. ما الذي دفعك إلى هذا في كتاب مهم ومواضيع حساسة للغاية كتلك التي تطرحها في (الكتاب والقرآن)؟
أنا تقصدت ذلك، والسبب ببساطة لأن - على سبيل المثال - كلمة النفس في الانكليزية غير كلمة الروح، وتحمل معنى مغايراً، فالنفس بالانكليزية هي (soul) أما الروح فهي (spirit). ونحن اعتدنا عندما يموت شخص ما أن نقول انتقلت روح فلان إلى الرفيق الأعلى، وهذا خطأ فادح، لأن الروح غير النفس. التي تنتقل هي النفس لا الروح، والأخيرة هي وكما قلت في غير مكان: العلم والمعرفة والتشريع. ومن هنا نجدهم يقولون كانت روح العصر الاليزابيثي في انكلترا روح أدب وفن ومسرح، واتسمت روح ذلك العصر بانتشار مسرح شكسبير. ولو كانت الروح كما يعتقد السلفيون لما كان الرسول عندما يقسم يقول: والذي نفس محمد بيده، إذ لم يقل ولا مرة والذي روح محمد بيده. تجدهم يقولون في المسيحية: الصلاة على راحة نفس فلان، وهذا صحيح، أما الصلاة عن روح فلان فهذا خطأ، وقد حاولت في كتابي توضيح هذه الإشكالية بأكبر قدر ممكن من التمثيل والإيضاح عساني وفقت في هذا.

شحرور يرى أن جدل الأضداد في ظواهر الطبيعة عبارة عن قوانين جزئية متغيرة (ثابت ومتحول) تُخزّن في الامام المبين الذي يحتوي على قوانين التصرف في ظواهر الطبيعة، والسلوك الانساني كذلك بعد حدوثه يُخزّن في الامام المبين. على الرغم من أنك دققت كثيراً في الألفاظ اللغوية لكنك لم تتطرق للفظة الإمام المبين، ونحن نعلم أن البعض حمّلها أكثر مما تحتمل، ومنهم من حمَّل بعض البشر صفات الإمام المبين واعتبروه انساناً يرافق النبي ويحمل هذه الميزات إلى أن يروا أنه بغياب النبي يقوم بالهداية وإعطاء تفسير مكاني/زماني، لكل ظاهرة من ظواهر الحياة. انطلاقاً مما رسمته في سؤالي دعنا في الإمام المبين.
أولاً: بالنسبة إلى الذين فسروا الإمام المبين بالانسان الذي يرافق النبي ويحمل هذه الميزات، هذا تفسير سياسي ولست معنياً بالرد عليه. أما أن يقوم بالهداية بعد غياب النبي... الخ فهذه آراء ومشكلات من يقولها، أما أنا فلا أقول كذلك.
قال الله في الامام المبين: (ألر تلك آيات القرآن وكتاب مبين) (الحجر 1).
من هنا لا يمكن أن يكون مبيناً بمفهوم الإمام أو مفهوم الصحف الأخرى، هذا فضلاً عن أنه قال في ذكر الإمام المبين كذلك: (إنّا نحن نحيي الموتى، ونكتب ما قدموا وآثارهم - أي الحاضر والماضي - وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) (يس 12). الإمام المبين هو جزء من القرآن، والأخير جاء من قرن، والقصص القرآني جاء من الإمام المبين (كل ما قدموا وآثارهم) فقرن الإمام المبين مع اللوح المحفوظ فجاء القرآن الكريم.

بما أننا تطرقنا إلى الإمام المبين واللوح المحفوظ، نستطيع القول إن القارئ يلاحظ أنك كثيراً ما استعملت كلمة (خُزِّنت) وهي مبنية للمجهول، أي لا أنت ولا نحن نعلم شيئاً عن كيفية التخزين (للقوانين) ومن ذاك الذي خزّنها. بل خّزِّنت بطريقة ما.
انطلاقاً مما ذكرت نستطيع أن نتساءل ماذا أبقى شحرور لهذه القوة التي تقف وراء الطبيعة والتي نسميها (الله)، فيما الحياة والكون والانسان عندك تسير بموجب هذه القوانين الموضوعية المخزّنة، وهذه القوانين ­ كما يرى منير الشواف، (أحد منتقدي شحرور) ­ حتمية وملزمة وصارمة ولا يمكن الخروج عنها، فما هو إذاً دور الله وعمله؟ تُرى هل أردت من هذا أن يؤمن الناس بإله صوري لا يتعدى أن يكون فكرة فلسفية تُرضي غريزة التدين عند الناس، ولذلك جردته من كل صلاحياته، بمعنى أن الإله عندك يملك ولا يحكم، بافتراض أن الاله في ما ذهبت إليه أسير القوانين التي خُزِّنت في اللوح المحفوظ والكتاب المكنون والإمام المبين، وبالتالي هو أسير للمادة وقوانينها.

على العكس مما ذكرت تماماً، أنا لم أكن أريد ولا أقبل أن أريد إلهاً صورياً، والذي يضع الله في الصورة التي وصفتها في معرض سؤالك هم السلفيون الذين ما زالوا يعتقدون أن الله خزَّن كل شيء سلفاً، وأصدق دليل على ما أقوله هو تعريفهم للقضاء والقدر، فهم ما زالوا يصرون على أن القضاء هو علم الله الأزلي والقدر هو نفاذ هذا القضاء والعلم في الواقع، بينما أنا أقول: إن القضاء هو حركة بين نفي وإثبات، أما القدر فهو وجود.
للتوضيح أكثر، دعني أضرب لك بعض الأمثلة: مثلاً إذا اجتمع أهل الأرض جميعهم، الصالح والطالح منهم، وطلبوا من الله أن يُلغي ظاهرة الموت، فهل سيستجيب الله لطلبهم؟ بالطبع لا، إذاً ظاهرة الموت مخزَّنة في اللوح المحفوظ، بمعنى ما هو مخزَّن في اللوح المحفوظ غير قابل للدعاء، وفي النهاية الله لا يتدخل إلا من خلال كلماته. ومن هنا نفهم قوله:
(قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) (التوبة 51). وجعلها بالجمع وليس بالمفرد، وقال: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) (الذاريات 22)، كذلك وضعها بالجمع وليس بالمفرد. مثال آخر: ميزانية سورية معروفة سلفاً، لكن توزيع هذه الميزانية من قبل أشخاص على أشخاص، يقوم على مبدأ الاحتمال، تماماً مثلما قال: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) (الذاريات 22). هذا منطق سليم، لكن هل وزّع الأرزاق لكل شخص بعينه، أي أن لكل شخص رزقاً محدداً دون غيره؟ بالتأكيد لا، لأن ذلك يلغي فضل العمل والجدّ فيه ويلغي مفهوم الصدقة. والله كتب المرض على الناس، وثمة قائمة بالأمراض التي يمرض بها الانسان من (سل، سرطان، تيفوئيد، ذات رئة، سعال ديكي... الخ) ونحن نعرف أننا لن نمرض إلا بمرض من هذه الأمراض، لأنه لا يوجد غيرها! من هنا أقول إن الله لم يحدد لنا مرضاً بعينه سنمرض به دون سواه، قال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كِتَاب) (الحديد 22). ماذا سنقول إذا كانت المصيبة قد وقعت نتيجة حادث سيارة.؟ ثمة كتاب يحتوي على كل الاحتمالات التي تسبب مصيبة حادث السيارة، فإما أن يكون السبب عطلاً في السيارة أو في الطريق أو في السائق، بمعنى كل الاحتمالات الموجودة في كتاب الحادث واردة. (منفعلاً) والهزيمة مصيبة، واحتمالاتها وأسبابها موجودة في كتاب الهزيمة، ونحن هزمنا أكثر من مرة، فلماذا لا ندرس كتاب الهزيمة؟ أي شيء في الطبيعة يُفرض علينا تجب علينا دراسة عناصره لأنه كتاب، وإذا لم ندرس تلك العناصر فلن نصل إلى شيء.

وردت في بعض الآيات كلمات مكتوبة بشكل مخالف للّغة العربية إملائيا، مثلاً (الحياة الحيوة)، (الصلاة - الصلوة) ، (فلن تجد لسنت الله تبديلاً 43 ­ فاطر) إذ كتبت التاء مبسوطة، وغير ذلك، وهذا نجده في نسخ المصحف كلها. برأيك ما السبب أو الحكمة من هذا؟ ولماذا بقيت هكذا رغم معرفتنا أنه درج تطور على الطريقة التي وصل فيها القرآن إلينا، على سبيل المثال في المراحل الأولى لم يكن يوجد تنقيط! تُرى هل نكون قد خرجنا عن الشرع إذا كتبنا الحيوة ­ الحياة؟
الفرق بين (الحيوة) و(الحياة) وبين (لسنت) و(لسنة) حتى الآن لا أعرفه، لكني اكتشفت فرقاً مهماً بين (الصلاة) و(الصلوة). فالصلوة هي التي نقوم بها وقت العشاء والظهر والمغرب... أما الصلاة فهي الدعاء، كأن نقول: يا رب. وكقوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلُّون على النبي) (الأحزاب 56)، والفعل من الصلاة هو صلى، أما الفعل من الصلوة هو صلو ومعناه أقم الصلاة، وقلّة هم الذين ينتبهون إلى هذا الفرق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق