الثلاثاء، 10 نوفمبر 2009

قول في البشر والإنسان

قول في البشر والإنسان (1)


قال تعالى : (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) (العنكبوت 20)

هذه الآية فيها أمر واضح صريح من خالق الكون بأنه يمكن بالنظر معرفة بداية الخلق، علماً بأننا لم نشهد بداية الخلق بالنسبة للكون، وبالنسبة للنظام الشمسي، وبالنسبة للحياة والكائنات الحية (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا) فإذا ربطنا هذه الآية مع الآية السابقة (قل سيروا في الأرض..) يمكن أن نميز أننا لم نشهد خلق السموات والأرض شهادة شهيد، ولكننا شهدناها شهادة شاهد، فالشهيد سميع بصير، والشاهد خبير عليم. فنحن الآن شاهدو معركة بدر لأننا علمنا بها وبتفاصيلها.

أما شهداء معركة بدر فهم الذين حضروا المعركة من المؤمنين والمشركين، من قُتِلَ ولم لم يُقتل أسوة بقول النبي (ص) (قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار). أما إطلاق الشهادة على القتيل في المعركة فهذا مصطلح ليس له علاقة بالتنزيل الحكيم.

فالشهيد من شهد عقد البيع (ولا يضار كاتب ولا شهيد) ونحن شهداء على الناس ، فهل نحن قتلى؟ علماً بأنه تعالى حين قال (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) (البقرة143) فإن هذا يعني أن الأمة المحمدية سيكون لها وجود إلى أن تقوم الساعة ولن تنقرض، وهذا لايعني أنها أعلم وأحسن أمة. والشهيد من شهد واقعة الزنا. أقول هذا لأنه لايوجد أي تناقض بين آية (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) وبين (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ..) .

فالرسول (ص) شهد على وحدانية الله شهادة شاهد، لاشهادة شهيد (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا) (الأحزاب 45)، وكذلك فإن العلماء – وليس السادة العلماء الأفاضل – هم الشهداء وفي صدر الجنة. فعالم الجيولوجيا شهد العينات من الأرض وبحث واستنتج العصور الجيولوجية ، فهو شهيد العينات، شاهدُ العصور الجيولوجية . والصحفي شهيد الحدث، ومن جراء شهادته يصبح بقية الناس شاهدين. فمهنة الصحفيين لاتقل عن مهنة كبار العلماء. (سنتحدث في مقال لاحق عن الشاهد والشهيد بتفصيل أكثر).

نحن لسنا شهداء الانفجار الكوني، ولكننا شاهدو هذا الانفجار، ولسنا شهداء خلق المجموعة الشمسية ولكننا شاهدو خلق هذه المجموعة. ولسنا شهداء بداية الحياة وتطورها حتى الوصول إلى البشر ثم الإنسان، ولكننا شاهدو هذا الخلق. كل هذا بفضل العلماء أمثال نيوتن وكبلر وكوبرنيك وإينشتاين وداروين ومئات آخرين ، لأنهم كلهم ساروا في الأرض وتعبوا وأمضوا عمرهم في البحث عن بداية الخلق، ومشوا في الخط الصحيح للآية (قل سيروا في الأرض) . ومع الأسف وصلنا إلى أن نكون شاهدين، ليس من كتب الأثر ولا من تفسيرات ابن عباس ومجاهد وعكرمة.

وإني أسأل السادة العلماء الأفاضل الذين يتحدثون عن خلق الإنسان أن يخبروني من مشى منهم متراً واحداً لينظروا كيف بدأ الخلق. مع الأسف غيرنا مشى في الأرض وحفر وفحص واستنتج. ونحن في هذا نعيش عالة عليهم، وليس عندنا إلا ما ورد في كتب الأثر بأن طول آدم ستون ذراعاً. علماً بأن التنقيبات وصلت إلى آثار بشر منذ أربع ملايين سنة، ولم نعثر على أثر لهذا المخلوق. وأن آدم عاش ألف سنة وعندما مات غسلته الملائكة وكفنته ودفنته. أي أن البشر منذ آدم كانت تعرف التغسيل والتكفين والدفن، فكيف ابنا آدم الواردة قصتهم في سورة المائدة لم يعرفا ذلك؟

في هذا الموضوع أستطيع أن أستفيض وأكتب مئات الصفحات، ولكني فضلت هذا المدخل لكي أقول أن ما ورد في الأثر عن خلق الكون والإنسان، وليس في التنزيل الحكيم، يجب أن لاينظر إليه ولا يؤخذ على محمل الجد. وعلى هذا الأساس نستطيع أن ندخل على مدخل بداية الحياة وتطورها، وظهور الكائنات الحية، وظهور البشر، ثم تحويل هذا البشر إلى إنسان بنفخة الروح .

تبدأ الحياة على الأرض بوحيد الخلية الذي عاش مليارات السنين وهو يطلق الأوكسجين ويتغذى على ثاني أوكسيد الكربون حتى تم إشباع مياه البحار بالأوكسجين، ثم انطلق الأوكسجين في الجو حتى ارتفعت نسبة الأوكسجين من واحد بالمائة إلى واحد وعشرين بالمائة. ومن هنا سمى الكائن الحي نفساً، لأن الكائن الحي يحتاج إلى أوكسجين. والتنفس (استهلاك الأوكسجين) تبدأ من وحيد الخلية إلى البشر. لذا فالنفس والتنفس تدل على الكائن الحي فقط وهذه النفس الحية هي التي تموت (ماكان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) و (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم) و (الذي خلق الموت والحياة) فالحياة والموت لهما وجود موضوعي (Objective) ولا علاقة له بنا ولا علاقة لهم بالقوانين الذاتية (Subjective) .

فانتماؤنا نحن إلى الكائنات الحية ضمن فصيلة هي البشر. والبشر هو تباشير الإنسان. ويجب أن نميز بين البشر والإنسان انطلاقاً مما قلنا سابقاً بأن التنزيل الحكيم خالٍ تماماً من الترادف والحشوية والعبث .

البشر والإنسان:

لقد ورد مصطلح البشر في الكتاب ليعبر عن الوجود الفيزيولوجي لكائن حي له صفة الحياة كبقية المخلوقات الحية وقد نمت الحياة وتطورت عن طريق البث الذي يحتوي على الطفرات الحياتية التي أدت إلى ظهور البشر وقد تميز البشر في الظهور ككائن حي مستقل في الفترة التي ظهرت فيها الأنعام (خلقكم من نفسٍ واحدةٍ ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلقٍ في ظلمات ثلاثٍ ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون). (الزمر6).

ففي هذه الآية نلاحظ أن وجود الإنسان البشري قد تزامن مع ظهور الأنعام. وكيف أن الإنسان في رحم الأم يمر بكل مراحل التطور التي مر بها وهي الظلمات الثلاث وهي المرحلة الحيوانية البحرية والمرحلة الحيوانية البحرية البرية والمرحلة الحيوانية البرية. وعندما شرح الكتاب إحدى مراحل خلق الإنسان بالمعنى العام وذلك بالمقارنة مع الجان قال: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصالٍ من حمأ مسنون) (الحجر 26). هنا نلاحظ أيضاً أنه استعمل الإنزال للأنعام وليس التنزيل، وكذلك استعمل الإنزال للحديد واللباس. وعلى الباحثين أن يدققوا هذا جيداً وخاصة بالنسبة للحديد.

وعندما أعطى التفصيل أتبعها بقوله: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصالٍ من حمأ مسنون) (الحجر 28) . (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (الحجر 29). وبعد نفخة الروح أمر الله إبليس بالسجود فأجاب: (قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون) (الحجر 33). وفي سورة "ص" قال: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين) (ص71). (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (ص72).

وقد قلنا: إن الخلق هو التقدير قبل التنفيذ. لذا فعندما قال للملائكة: (إني خالق بشراً) فهذا يعني أن البشر لم يظهر بعدُ لذا اتبعها بقوله: (فإذا سويته). ثم اتبعها بقوله (ونفخت فيه من روحي) وبين الخلق والتسوية توجد الأداة "إذا" وهي ظرف لما يستقبل من الزمن. لذا قال (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون) (الأنعام 2). ثم استعمل أداتين معاً وهما "ثم وإذا" في قوله: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) (الروم 20) وقد استعمل هاتين الأداتين معاً بسبب الفارق الزمني الطويل بين التراب "المواد غير العضوية" وبين البشر هذه المرحلة التي أخذت مئات الملايين من السنين. وقد بين أن الانتشار في الأرض حصل في مرحلة البشر قبل نفخة الروح وأن البشر كان منتشراً قبل مرحلة الأنسنة. وأن البشر هو الشكل المادي الحيوي الفيزيولوجي الظاهري للإنسان حيث أن الإنسان هو كائن بشري مستأنس غير مستوحش "اجتماعي".

وقد أجمل خلق الإنسان في بداية التنزيل في قوله: (خلق الإنسان من علق) (العلق 2). والعلق جاء من "علق" وفي اللسان العربي علق به و علقه: نشب به، كقول جرير يصف شجاعاً:

إذا علقت مخالبهُ بقرنٍ * أصاب القلب أو هتك الحجابا

وفي ابن فارس العين واللام والقاف أصل كبير صحيح يرجع إلى معنى واحد وهو أن يناط الشيء بالشيء ثم يتسع الكلام فيه .
لقد فهم المفسرون العلق على أنه الدم الجامد وهو تأويل لا يتطابق تمام التطابق مع الحقيقة وذلك لجهلهم بوجود الخلية المنوية والبويضة واللقاح الخلوي.

فالعلق هو أن يعلق شيء بشيء آخر ومفردها "علقة" لذا قال: (من نطفةٍ ثم من علقةٍ) فوضع العلقة بعد النطفة وهي مفرد وتعني دخول الحيوان المنوي إلى البويضة "تعلق شيء بشيء آخر" وهذا ما نسميه اللقاح وهو ما نقول عنه الآن في المصطلح الحديث "علاقة" فالعلق جمع علقة "أي علاقات" وقوله: (خلق الإنسان من علقٍ). أي أن الإنسان مخلوق من مجموعة من العلاقات هذه العلاقات التي نقول عنها في المصطلح الحديث علاقات فيزيائية وكيميائية معدنية وعضوية وبيولوجية الخ.

ثم لنلاحظ أن قوله (خلق الإنسان من علق). قد جاءت في بداية الوحي للتنويه بأن الوجود المادي هو مجموعة كبيرة من العلاقات المتداخلة بعضها ببعض، ومن هذه العلاقات لا من خارجها تم خلق الإنسان. وذلك للدلالة على أن الوجود المادي خارج الوعي الإنساني هو مجموعة من العلاقات.

1 - الآيات التي ذكر فيها البشر تعني الوجود الفيزيولوجي المادي للإنسان وذلك للدلالة على جنسه كبشر وليس ملكاً أو من جنس آخر:

- (قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر) (آل عمران 47).
- (قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً) (مريم 20).
- (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً) (مريم 17).
إن هذه الآيات تبين أن مريم قد رأت روح الله في صورة بشرٍ بحت لا في صورة ملكٍ أو جن ولذلك قال: "سويا".

2 - (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله) (آل عمران 79) .
(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم) (الشورى 51).
هنا يؤكد طريقة الوحي للجنس البشري لأنه لو كان جنساً آخر لكان من الممكن أن تكون طريقة الوحي غير الذي ذكر فمثلاً في الوحي للنحل، والنحل ليس بشراً كقوله: (وأوحى ربك إلى النحل) (النحل 68) فهذا يعني أن طريقة وحي الله للنحل غير طريقة وحي الله للبشر. ولكي يؤكد أن المسيح بشر والبشر إذا أوحي إليه من الله لا يقول للناس كونوا عباداً لي. فإذا حصل أن قال أحد من البشر للناس كونوا عباداً لي فهذا يعني أنه دجال ولم يوح إليه شيء.

3 - (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) (النحل 103).
(إن هذا إلا قول البشر) (المدثر 25).

هنا أكد أن الذي يكلم النبي (ص) ليس من البشر أي ليس من جنس النبي (ص) وإنما يعلمه الله عن طريق الوحي وهو ليس من البشر. وقول الوليد بن المغيرة إن الذي يوحى إلى محمد هو من قول البشر أي من قول مخلوق من جنسنا.

4- (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه) (المؤمنون 33). هنا أكد أن الطعام من صفات البشر وأن الرسل الذين أرسلهم الله كانوا من البشر يأكلون كما تأكل بقية الناس.

5 - (بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذبُ من يشاء) (المائدة 18). (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشرٍ من شيء) (الأنعام 91)، والآية (إبراهيم 10)، والآية (إبراهيم 11). والآية (الكهف 110). والآية (المؤمنون 24)، والآية (الشعراء 186). والآية (هود 27)، والآية (يوسف 31)، والآية (الإسراء 94)، والآية (المؤمنون 34) ، والآية (القمر 24) ، والآية (المؤمنون 47) .
هنا نلاحظ في تلك الآيات السابقة ذكر البشر في مجال الجنس الفيزيولوجي المادي أي أنه كبقية الناس لهم أيدٍ ومعدة ووجه وباقي الأعضاء ويأكلون كبقية الناس ولكن يتميزون عنهم فقط بالوحي لذا قال (بشر مثلنا)، (لبشرين مثلنا). وقد قارن البشر كجنس بأنه ليس ملائكة بقوله في مجال المقارنة مع البشر. (ولو شاء الله لأنزل ملائكةً). (المؤمنون 24) والملائكة ليسوا من جنس البشر وذلك أن الناس تعودوا بأن ينزل الله ملائكة رسلاً قبل أن يبعث الله رسلاً منهم بصفة بشرية ولذا كان هذا الاستغراب الكبير.

6 - (سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحةٌ للبشر * عليها تسعة عشر) (المدثر 26، 30).
هنا بين أن العذاب جسدي فيزيولوجي بحت قال عن سقر بأنها (لواحة للبشر) ولكي يبين أن إيراد ذكر سقر في الكتاب هو لهذا الجنس الذي هو البشر.

7 - الآيات التي جاء فيها الإنسان "الناس" تعني الكائن العاقل:
لقد ورد الإنسان والناس في عدة آيات بمعنى الكائن العاقل ولكن يجب أن نميز بين أصل إنسان وهو من "أنسن" وتعني في اللسان العربي ظهور الشيء وكل شيء خالف طريقة التوحش ومنه الإنس أي أنس الإنسان بالشيء إذا لم يستوحش منه ويقال إنسان وإنسانان وأناسي.
فالإنسان هو البشر المستأنس غير المتوحش، أي له علاقة اجتماعية وصلة مع غيره، أما الناس فقد جاءت من "نوس" وهو في اللسان العربي أصل يدل على اضطراب وتذبذب فعندما اجتمع الإنسان مع أخيه الإنسان تولد عن هذا الاجتماع اضطراب وتذبذب في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أي لم تسر الحياة بشكل رتيب كما عند بقية المخلوقات كالنحل وأصبحوا ينوسون أي ينتقلون من مكان إلى آخر بشكل واع. وكلما ازداد الإنسان في تقدمه الإنساني زاد النوسان.

فإذا تصفحنا آيات الكتاب التي تحتوي على لفظة الإنسان والناس نراها تدور حول المواضيع التالية:
1 - (ومن الناس من يقول ..) (البقرة 8)، (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس .. الآية). (البقرة 13)، (يا أيها الناس اعبدوا ربكم .. الآية). (البقرة 21)، والآية (البقرة 83)، والآية (البقرة 44)، والآية (البقرة 96)، والآية (البقرة 142)، والآية (البقرة 164)، والآية (الروم 41)، والآية (البقرة 185)، والآية (النساء 174)، والآية (المائدة 44)، والآية (المائدة 49)، والآية (الناس 5)، والآية (سبأ 28)، والآية (البقرة 188)، والآية (هود 103)، والآية (يوسف 103).
نلاحظ أن هذه الصيغة كلها صيغ للعاقل ودائماً يوجه الخطاب في الكتاب في قوله (يا أيها الناس). ولم يقل أبداً يا أيها البشر.
2 - (إن الإنسان لظلوم كفار). (إبراهيم 34)، (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير) (الإسراء 11)، (إن الإنسان لكفور مبين) (الزخرف 15)، (إن الإنسان خلق هلوعاً). (المعارج 19)، (يقول الإنسان يومئذٍ أين المفر) (القيامة 10)، (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً) (الأحقاف 15). هذه الصفات كلها للمخلوق العاقل.
3 - عندما ذكر خلق الإنسان أعطاه في جملة كقوله (خلق الإنسان من علق). وعندما أعطى التفاصيل وطريقة الخلق ذكر البشر كقوله (إني خالق بشراً).

نلاحظ الفرق الواضح بين البشر والإنسان فالبشر هو الوجود الفيزيولوجي المادي للإنسان ككائن حي ضمن مجموعة مخلوقات حية. إن القردة كائنات حية والأنعام كائنات حية لذا عندما ندرس جسم الإنسان في الجامعة ككائن حي فقط نقول" كلية الطب البشري" ولا نقول كلية الطب الإنساني. فالبشر هو تباشير الإنسان أوله حيث تباشير كل شيء أوائله. وعندما نقول العلوم الإنسانية فإننا نقصد علوم اللغات والتاريخ والفلسفة والحقوق والشريعة والسياسة والاقتصاد وعلم النفس والفنون بأنواعها.

أي العلوم التي تتعلق بالإنسان ككائن حي عاقل له سلوك واع. والعلم الوحيد الذي يجمع البشر والإنسان هو علم النفس الذي يجمع البشرية والإنسانية، وهو يدرس في كلية الطب، وفي علوم الاجتماع والسياسة. وآدم هو أبو الإنسان وليس والد البشر، ولو ميز السادة العلماء الأفاضل بين الأب والوالد لعرفوا ذلك. فالوالد والوالدة لهما مفهوم بيولوجي، والأب والأم له مفهوم إنساني. وإن النسب للأب والأم وليس للوالد والوالدة، لأن الحيوانات لها والدان ولا أنساب لها. ويجب أن نعلم أن الله نفخ الروح في آدم فتأنسن ، ولم ينفخ الروح في بقية المخلوقات (كالقردة وغيرها) لذلك لم تتأنسن هذه المخلوقات. أي أن نفخة الروح هي الحلقة المفقودة في نظرية النشوء والارتقاء .

أي أن لدينا المعادلة التالية :

بشر + روح = إنسان ، وهذا يعني أن البشر هو (النفس) ، والروح هي (المعرفة والتشريع) . وبما أن الوحي عبارة عن مجموعة من التشريعات والمعلومات فقد سماه روح.
بشر = وجود موضوعي ، روح = ذاتي ، إنسان = الذات والموضوع.

على ضوء ما سلف لنناقش قوله تعالى (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) (آل عمران 59) نقول ما يلي: بما أن الله سبحانه وتعالى لاتنطبق عليه معادلة الزمكان (الزمان والمكان) لذا فالثانية عند الله والمليون سنة سيان. فإذا خلق الله عيسى خلال ثانية أو دقيقة أو تسعة أشهر، وتم خلق آدم وتسويته خلال مئات ملايين السنين، فالفترة الزمنية لعيسى وآدم عند الله سيان يكون عند عيسى ثوانٍ أو دقائق أو أشهر، ويكون عند آدم مئات الملايين من السنين. أما بالنسبة لنا، ونحن نعيش على محور الزمن ولسنا خارجه، فإن عيسى وآدم عندنا ليسا متماثلين لأننا لسنا آلهة. والدقيقة عندنا تختلف عن المليون سنة.

ومن جهة أخرى، وقعنا في حبائل الشيطان عندما افترضنا أن الله سبحانه وتعالى عنده احتمال واحد في الخلق واحتمال واحد في المعرفة، فإذا تم خلق الإنسان كما ورد في كتب الأثر، فهذا يعني أن الله خلقه وأن الله له علاقة بهذا الخلق. وإن قلنا أنه تم بغير ذلك فيفهمونه كما لو أن الله لا علاقة له بذلك. ولماذا لا نقول أنه منذ أن تم خلق وحيد الخلية على الأرض منذ ملايين السنين، والإنسان مبرمج ليظهر على سلم التطور والارتقاء. وكل هذا بتدبير من الله عز وجل. فنحن لانسأل عند خلق الإنسان عن قدرة الله في الخلق، ولكننا نسأل كيف تمت إرادة الله في خلق الإنسان. وهنا يدخل العلم والمنهج العلمي والسير في الأرض، لا قراءة كتب الأثر . (لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع راجع كتابنا الأول (الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة) الصادر عام 1990).

حول نشأة آدم ونشأة الإنسان (2)


قلنا في المقال الأول أن الوجود الفيزيولوجي للإنسان كبشر بدأ قبل ملايين السنين، وأن عملية الأنسنة تمت بنفخة الروح. فآدم أبو الإنسان وأبو التاريخ الإنساني، وليس والد الوجود الفيزيولوجي البشري، وأن الحياة والموت خلق لاعلاقة لهما بالروح (الذي خلق الموت والحياة) . وأن الحيوانات ليس لها روح وإنما هي أنفس. وهنا تكمن ما يسمى بالحلقة المفقودة في نظرية النشوء والارتقاء، وهي نفخة الروح، وهي تمثل الجانب الذاتي للإنسان، ومنها نشأت النفس التي تتوفى (الأنا الإنسانية) وهذه النفس منها المطمئنة، ومنها اللوامة، ومنها الأمارة بالسوء. ولا يمكن أن تكون هذه النفس إلا بكائن عاقل مدرك، عنده معارف وعنده تشريعات (قيم عليا)، وهذا من نتاج نفخة الروح. أما الحمل ونبض القلب والدورة الدموية وكل هذه الأمور فلا علاقة للروح بها وهي تؤلف النفس التي تموت، وهذا ما يبين تهافت كتب الأثر حول نشأة الحياة والإنسان.

والآن ندخل في ظاهرة نفخة الروح وما نشأ عنها وكيف أن البشر بلغ مرحلة كان جاهزاً فيها لنفخة الروح، وهي ما يعبر عنها بنشأة الإنسان، مع ترافق هذه النشأة بنشأة الكلام الإنساني وهو النتاج الأول لنفخة الروح.

عندما بلغ البشر مرحلة متقدمة من التطور العضوي والنضج، أصبح مؤهلاً لنفخة الروح وهذا التأهيل كان في ظاهرتين رئيسيتين هما:
1 - انتصاب الإنسان على قدميه وتحرير اليدين وذلك في قوله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسويك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك) (الانفطار 6، 7، 8). فهنا نرى لفظة عدلك جاءت بعد التسوية، وعدل في اللسان العربي لها أصلان صحيحان لكنهما متقابلان كالمتضادين أحدهما يدل على الاستواء والآخر على الاعوجاج. ونرى هنا معنى عدلك هو معنى فيزيائي وليس اجتماعياً لأنه جاء في آية واحدة مع الخلق والتسوية، والخلق والتسوية هنا لهما معان مادية وليست اجتماعية بمعنى العدل ضد الظلم.
ونرى هنا أن المعنى الأول هو الصحيح وهو الاستواء على قدمين، لأن الإنسان الآن مستو على قدميه ومتحرر اليدين. هذه الظاهرة في الاستواء على القدمين أعطت للإنسان بعداً إضافياً وهو تحرير اليدين من أجل ظاهرة العمل الواعي، فإذا نظرنا إلى اليدين في الإنسان رأيناهما من أروع آلات العمل، تمتلكان قدرة هائلة على المناورة في الحركات. وهنا بدأت مرحلة البشر المنتصب، وخير مثال عليها (لوسي) التي وجدت بقاياها في أثيوبيا وذات العمر أكثر من أربعة ملايين سنة.
2 - نضوج جهاز صوتي خاص به، وهذا الجهاز قادر على إصدار نغمات مختلفة بعكس بقية المخلوقات التي تصدر نغمة صوتية واحدة. هذا الجهاز الصوتي عبر عنه في سورة الرحمن: (الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان) فقوله: (علمه البيان) عن الرحمن فهذا يعني أنه تعلم اللغة بواسطة قوانين مادية موضوعية وليس وحياً أو إلهاماً. وأول هذه القوانين هو وجود الجهاز الصوتي، لاحظ أنه قال "الرحمن" ولم يقل "الله".

أولاً: آدم وبداية نشأة الكلام الإنساني

لا يمكن للكلام أن يسمى كلاماً إنسانياً إلا إذا كان مقطعاً إلى مقاطع صوتية متميزة بعضها عن بعض يصدرها الإنسان بشكل واعٍ.
عندما أصبح البشر جاهزاً من الناحية الفيزيولوجية لعملية نفخة الروح "الأنسنة"، وذلك بانتصابه على قدميه وتحرير اليدين وبوجود جهاز صوتي قادر على إصدار النغمات المختلفة. وللدلالة على أنه أصبح جاهزاً قال: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) . (البقرة 30) .

نلاحظ في هذه الآية قوله: (إني جاعل). والجعل هو عملية التغير في الصيرورة كقوله لإبراهيم (إني جاعلك للناس إماماً). إذ لم يكن إبراهيم إماماً للناس فأصبح إماماً. واستعمال اسم الفاعل في قوله: (إني جاعل) فيه دلالة على استمرار العملية كقوله: (إني خالق بشراً من طين) (ص 71) ففي مراحل الخلق المختلفة استعمل (إني خالق) فعندما قال (إني جاعل) للدلالة على وجود البشر الذي تمت تسويته وأصبح جاهزاً لتغير في الصيرورة ليصبح خليفة الله في الأرض أي لم يكن خليفة فأصبح ولكنه موجود مادياً.

لذا سأله الملائكة: (أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء) لنقارن هذا القول مع قوله: (إني خالق بشراً من طين) فعندما قال: (خالق بشراً). لم يذكر احتجاج الملائكة لأنه لم يستو بعد ولم يكن الإنسان موجوداً في شكله الجاهز لنفخة الروح لذا أتبعها بقوله (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (ص72). ومع ذلك لم تقل الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء). ولكن عندما قال: (إني جاعل في الأرض خليفةً) جاء الاحتجاج، وكان الاحتجاج طبقاً لمعلومات مشاهدة، أي عندما قال (إني جاعل في الأرض خليفةً) كان البشر ما يزال في المملكة الحيوانية قبل الأنسنة، ولكنه قائم على رجليه وله جهاز صوتي قادر على التنغيم المختلف وكان تصرفه كالبهائم أي يأكل اللحوم (ويسفك الدماء) للدلالة على التخريب غير الواعي في الغابات كما تفعل بعض فصائل القردة من قطع أغصان الأشجار، وهنا يجب أن لا نفهم (يفسد فيها) على أنه سلوك لا أخلاقي أي مخالفة تعليمات الله سبحانه وتعالى فهذا يسمى فسوقاً لا فساداً.

فعندما يصبح الطعام غير صالح للأكل نقول: فسد الطعام ولا نقول فسق الطعام. فالفساد هو التخريب كقوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ..) (المائدة 33). هنا (يسعون في الأرض فساداً) تعني قطع الشجر وتخريب الطرق والجسور وهدم البيوت والمنشآت.

وكقوله: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها). (الأعراف 85) وقوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين). (البقرة 60) (هود 85) (الشعراء 183)

وهنا نلاحظ الخطأ في القول بأن (يُفسد فيها ويسفك الدماء) تعني أنه كان هناك مخلوقات عاقلة قبل آدم فسدت وسفكت الدماء فأهلكها الله سبحانه وتعالى، أو علمت الملائكة أن هذا المخلوق سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، فالقولان فيهما نظر، والصحيح عندنا أن الملائكة قالت ما شهدت فعلاً عند قوله: (إني جاعل في الأرض خليفةً). ومن هنا فعلينا أن نعيد النظر في القول الذي يقول إن الله خلق آدم ووضعه في الجنة ثم خلق بعده حواء ثم طردا من الجنة هما وإبليس ونزلا إلى الأرض، وذلك للأسباب التالية:

إن وصف الجنة التي وصفها لآدم لا يشبه وصف جنة المتقين، حيث أن الآيات الواردة في التنزيل الحكيم حول الساعة والصور واليوم الآخر تبين بأن الجنة والنار لم توجدا بعد وإنما ستقومان على أنقاض هذا الكون بقوانين مادية جديدة، وأن من صفات جنة المتقين الخلود واختفاء ظاهرة الموت. فكيف يمكن إغراء إنسان بشيء لا يعرفه وغير موجود؟ وقد تم إغراء آدم بقوله: (هل أدلك على شجرة الخلد وملكٍ لا يبلى) (طه 120). وقوله: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) (الأعراف 20).

فلولا أن آدم يعرف الموت وأن الأشياء تبلى لما تغرر بذلك القول وهذه الآية تنوه أيضاً بأن غريزة البقاء هي أقوى غريزة لدى المخلوقات كلها. ثم تأتي بعدها غريزة التملك وبقاء الممتلكات بقوله (وملكٍ لا يبلى). وهذه الغريزة انتقلت من المملكة البهيمية إلى الإنسانية، أي أن هاتين الغريزتين دخلتا الوعي الإنساني، وهنا ظهر مفهوم الشيطان بأنه عدو للإنسان (إن الشيطان كان للإنسان عدو مبين) والبهائم ليس شياطين أو وساوس، وأضيف إلى هذه الغرائز الشهوات، حيث الشهوات مفهوم إنساني بحت له أرضية معرفية.
ثم إن وصف جنة آدم بعيد جداً عن وصف جنة الخلد وذلك في قوله: (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) (طه 118). (وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) (طه 119).

هنا نلاحظ أنه يصف جنة أرضية تشبه الغابة التي فيها ثمار طبيعية بحيث يأكل بدون أن يعمل. و"تعرى" هنا من العراء أي الخروج من الغابة إلى الصحراء كقوله: (فنبذناه بالعراء وهو سقيم) (الصافات 145) فإذا خرج إلى العراء فإنه يحتاج إلى ظاهرة العمل ليكسب عيشه لذا قال (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) (طه 117).

وكذلك يوجد في الغابات التي عاش فيها الإنسان المياه (لا تظمأ فيها)، وفيها أيضاً الظل (ولا تضحى) حيث "تضحى" جاءت من فعل "ضحى" وهو في اللسان العربي أصل صحيح يدل على بروز الشيء ويقال ضحى الرجل يضحي، إذا تعرض للشمس، ويقال أضح يا زيد أي أبرز للشمس، ومنه سميت الأضحية لأنها تذبح عند إشراق الشمس، وضاحية كل بلد ناحيتها البارزة.

إن هذا الوصف بعيد جداً عن وصف جنة الخلد الذي جاء في القرآن ومن أول مواصفاتها اختفاء ظاهرة الموت.

من هنا نستنتج
آ - أن البشر وجد على الأرض نتيجة تطور استمر ملايين السنين "البث" حيث أن المخلوقات الحية بث بعضها من بعض، وتكيفت مع الطبيعة وبعضها مع بعض وقد وجد البشر وانتشر في مناطق حارة مغطاة بالغابات حيث يوجد في هذه الغابات مخلوقات حية أخرى كان يفترسها البشر (يسفك الدماء) وكان يسلك سلوك الحيوانات الأخرى أي كان كائناً غير عاقلٍ إذ لم تظهر فيه ظاهرة العمل الواعي وهو بشر. وإلى اليوم نرى أن الإنسان كبشر هو كائن نباتي لاحم له أنياب .
ب - يجب علينا أن نفهم قوله: (اهبطوا منها). على أنه انتقال من مرحلةٍ إلى مرحلة أخرى، وليس المعنى "انزلوا منها" ونحن نقول: إن الله أنزل ونزل القرآن ولا نقول أهبط وهبَّط القرآن وقد استعمل الكتاب فعل هبط في مجال الانتقال المكاني أو الكيفي؛ في مجال الانتقال المكاني أي من مكان إلى آخر على الأرض (هود 48). ومع نوح (ع) والكيفي مع بني إسرائيل (البقرة 61).
فهنا يجب أن نفهم (اهبطوا منها) انتقال كيفي أو مكاني أو الاثنين معاً، وكل ذلك حصل على الأرض، وجنة الخلد ليس لها أية علاقة بذلك لأنها أصلاً لم توجد بعد.
ج - مفهوم آدم: لقد جاء آدم "من "آدم" وهذا الفعل في اللسان العربي له أصل واحد وهو الموافقة والملاءمة، ومنها جاءت الأدمة وهي باطن الجلد لأن الأدمة أحسن ملاءمة للحم من البشرة ولذلك سمي آدم عليه السلام لأنه أخذ من أدمة الأرض.
هنا جاء في لفظة آدم المصطلحان معاً فالبشر مؤلف عضوياً من عناصر موجودة في الأرض وبعد انتصابه ووجود الجهاز الصوتي المناسب أصبح موافقاً وملائماً لعملية الأنسنة، أي أن آدم هو المخلوق المتكيف الملائم للأنسنة، وهو أكثر المخلوقات على الأرض تكيفاً مع الظروف البيئية والمعاشية. ومن الخطأ الفاحش أن نقول أن آدم اسم أعجمي بل هو مصطلح عربي صرف وإذا مدحنا إنساناً وقلنا إنه آدمي فهذا يعني أنه دمث متكيف مع الظروف التي يعيشها.
وهنا أيضاً يجب أن نفهم أن آدم ليس شخصاً واحداً وإنما هو جنس نقول عنه الجنس الآدمي.
لذا فعندما قال (يا بني آدم). فإنه يخاطب الجنس الآدمي وقوله: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق). فإنه يذكر إحدى مراحل تطور الجنس الآدمي وذلك بعد خروجه من المملكة الحيوانية وهذه الحلقة هي تعليمه دفن الموتى. وفي التنزيل الحكيم لايوجد قابيل وهابيل.
د - شرح قوله تعالى "الذي علم بالقلم": "قلم" في اللسان العربي أصل صحيح يدل على تسوية شيء عند بريه وإصلاحه، من ذلك قلمت الظفر ومن هذا الباب سمي القلم قلماً.
لقد جاء قوله تعالى (الذي علم بالقلم). في بداية الوحي، وقد شرحنا قوله: (خلق الإنسان من علق) وعندما قال: (الذي علم بالقلم). أتبعها بقوله: (علم الإنسان ما لم يعلم). ونلاحظ أيضاً أنهما آيتان منفصلتان بينهما "نجمة"، وكان من الممكن أن يقول "الذي علم الإنسان بالقلم".

ولقد جاء فصل الآيتين للدلالة على أن التعليم بالقلم مطلق للإنسان ولغيره، ومن جملة المخلوقات التي تم تعليمها بالقلم الإنسان. لقد قال المفسرون عن قوله تعالى: (الذي علم بالقلم). هي كناية عن تعليم الكتابة لأن آلة الكتابة هي القلم. فإذا سلمنا جدلاً بأن هذا الكلام صحيح، فماذا نقول عن قوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها). وقد قال بشكل مطلق أن التعليم لا يكون إلا بالقلم "كما زعموا" فهل كان عند آدم كتابة وقرطاسية وسبورة وطباشير؟

إننا نعلم أن الكتابة "الأبجدية" ظهرت في عهد غير بعيد نسبياً. فإذا كان الأمر كذلك، فما هو القلم الذي علم الله به كل المخلوقات بدون استثناء ومن ضمنها الإنسان؟

إذا نظرنا للأصل اللغوي وهو التسوية والإصلاح والتهذيب. فعندما نقصُّ أغصان الشجر فإننا نقلمها، وعندما نقص ونهذب طرف العود الصغير فنسميها قلماً. فالقلم هو قص الأشياء بعضها عن بعض وتهذيبها، وهذا ما نقول عنه اليوم التمييز "التعريف" (Identification).

وفي مكتب تسجيل السيارات هناك القلم أي فيه إضبارة كل سيارة، نوعها، سنة الإنتاج، اللون، الرقم، المالك، كل هذه المعلومات هي لتمييز كل سيارة على حدة. وكذلك هناك في القوات المسلحة "قلم اللواء" أي فيه الأوراق الصادرة والواردة تميز وتوزع حسب العائدية.

فالتقليم هو تمييز الأشياء بعضها عن بعض وهذه العملية هي العمود الفقري للمعرفة الإنسانية، وبدونها لا تتم أية معرفة.
فإذا كان الأمر كذلك فلماذا وضعها بشكل مطلق (الذي علم بالقلم). ثم علق الإنسان بها بقوله (علم الإنسان ما لم يعلم) أقول لأن التقليم ليس من صفات الإنسان فقط حتى المعرفة الغريزية تقليم. فنرى أن القطة تميز أولادها، والبقرة تميز وليدها، فإذا جاء غير وليدها ليرضع منها فإنها تصده، أي أن البقرة لها جهاز ما أو مؤشر ما يتناسب مع بنيتها تستطيع أن تميز به وليدها من غيره، وكذلك النحلة تميز خليتها عن باقي الخلايا، والخيل تميز اللحم من الحشائش فلا تأكل اللحم.

والملائكة أيضاً لا تعلم من العلم إلا المعلومات التي تدخل بجهاز التقليم الخاص بها، فهناك ملائكة تسبح فقط لأن قلمها قائم على التسبيح فقط لأنها لا تميز شيئاً آخر. لذا فما دخل في قلمنا هو ضمن معلوماتنا "الشهادة" وما لم يدخل في قلمنا فهو خارج معلوماتنا "الغيب".

وقد خلق الله للتقليم أنواعاً كثيرة وإمكانيات مختلفة حسب الظروف التي يعيشها كل كائن حي. فالأسماك لها قلم، والوطواط له قلم .. وهكذا دواليك.

فإذا أخذنا الحواس مثلاً، نرى أن العين تقلم الألوان والأبعاد والأشكال التي تدخل ضمن إمكانياتها البصرية، والأذن تقلم الأصوات التي تدخل في إمكانياتها السمعية، واللسان يقلم المذاق حسب إمكانياته، والشم يقلم الروائح، والجلد يقلم الحرارة والملمس. ولولا هذا التقليم الذي هو صفة الحواس لما كان هناك علم حيث أن الحواس تقلم وهي نفسها مقلمة إلى خمس حواس.

ثم عندما تنتقل صورة الأشياء عن طريق الحواس يعمل الفكر أيضاً على التقليم حيث يحلل "يقلم" ظاهرة ما إلى عناصرها الأساسية ثم بعد ذلك يركب "يعقل" ويصدر حكماً.

فإذا أخذنا تقدم المعارف الإنسانية رأينا أن التقليم هو أساسها. فعندما اكتشفت الكهرباء في القرن الماضي كانت عبارة عن علم بسيط واحد ثم تطورت بالتقليم فأصبح هناك محطات توليد طاقة، خطوط نقل طاقة، محركات كهربائية، دارات إلكترونية، حتى أصبحت كلية قائمة بذاتها تتألف من عدة مواد منفصلة "مقلمة". وكذلك الطب كان هناك جسم الإنسان وطب عام ثم قلمناه بالتطور فأصبح هناك طب عظام وطب عيون وطب أنف وأذن وحنجرة وطب نفساني وطب عصبي، وجراحة، وجهاز هضم، وهكذا دواليك. وعندما اكتشف الإنسان الخارطة الجينية، فهذا زيادة في التقليم حيث قلَّم وظيفة كل جينة في ذاتها.

ثم لنأخذ القلم في معناه المجازي كأداة كتابة للأبجدية فلا يمكن أن نقول إننا نخط رسالة بحبر أبيض على ورق أبيض، فالعين بذلك لا تميز شيئاً، ولكننا نكتب مثلاً بلون أزرق على ورق أبيض، هذا هو التمييز الأول. ثم هناك التميز الثاني للأبجدية، فنرمز لصوت النون بالرمز "ن" ولصوت اللام بالرمز "ل". بما أن النون واللام صوتان مميزان بعضهما عن بعض رمزنا لهما برمزين مختلفين لتبيان التمييز.

وإذا أخذنا مثلاً الأمراض فنرى أن مرض السرطان موجود موضوعياً فنستطيع أن نقلم "نميز" الخلية السرطانية غير المخلقة عن الخلية العادية "المخلقة" ولكننا لم نستطع أن نقلم إلى اليوم الأسباب الحقيقية للسرطنة، لذا فإن مرض السرطان مقلم كظاهرة مرضية وغير مقلم كأسباب حقيقية لهذه الظاهرة، علماً بأنه قد تم تقليم بعض الأسباب المساعدة على السرطنة وهذا يسمى باللغة الإنجليزية (Identification).

ومبدأ الهوية الشخصية يقوم على التقليم بالاسم والكنية واسم الأب والأم والصورة وتاريخ ومكان الميلاد والعلامات المميزة وذلك لتقليم صاحب الهوية عن غيره.

فإذا رجعنا الآن إلى تعريف الكلام الإنساني قلنا إنه يتألف من أصوات مقطعة متميزة، أي أن الكلام الإنساني يقوم على تقليم الأصوات. وهكذا فإن المعرفة الإنسانية صاعدة إلى الأعلى كماً ونوعاً، ومحورها الذي لاتخرج عنه هو القلم. وبما أن الوسيلة الوحيدة بالنسبة لكل المخلوقات هي القلم، فالله سبحانه وتعالى واحد في كَمّه (إنما إلهكم إله واحد) أحادي في كيفه (قل هو الله أحد) ومن أجل أن نتعرف عليه قلَّمَ أسماءه الحسنى لنا فهو الخالق البارئ المصور ... الخ.

وإذا أخذنا الآن قوله تعالى: (خلق الإنسان من علق). وقوله: (الذي علم بالقلم). وجدنا أن بداية الوحي لمحمد (ص) هي بداية المعرفة حيث بدأ بفعل الأمر "اقرأ" والقراءة هي العملية التعليمية فجاءه بعدها العمودان الفقريان للمعرفة، الأول أن الوجود خارج الوعي الإنساني مؤلف من علاقات متداخلة بعضها مع بعض ومنها خلق الإنسان والثاني أن وعي هذه العلاقات من قبل الإنسان لا يمكن أن يتم إلا بالتقليم أي تمييز هذه العلاقات بعضها عن بعض، والحواس هي الأدوات المادية للتقليم المشخص المباشر (الإدراك الفؤادي) .

نستنتج من هذا التعريف للعلاقات المتداخلة ولتقليمها أساس البحث العلمي والنشاط الاقتصادي والإنتاجي. فإذا أردنا أن نقوم ببحث علمي لظاهرة ما، فما علينا إلا أن نعلم أن هذه الظاهرة يجب أن تكون مؤلفة من علاقات متداخلة ببعضها، وبالتالي فإذا أردنا أن نعرفها فالبحث العلمي يقلمها إلى العناصر الأساسية المركبة لهذه العلاقات. وكذلك في النشاط الإنتاجي الناجح فإنه يجري تقليم العملية الإنتاجية إلى مجموعة من العمليات الأولية وناتج هذا التقليم هو ما يسمى بالخط الإنتاجي. وهكذا فإن النشاط الإنساني المعرفي والإنتاجي قائم على العلاقات وتقليم هذه العلاقات.
وهكذا نرى أن بداية الوحي للرسول (ص) هو المدخل الأساسي إلى نظرية المعرفة الإنسانية، وبواسطة هذا المدخل نستطيع أن ندخل إلى كل العلوم الكونية والإنسانية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق