الثلاثاء، 10 نوفمبر 2009

جامعة الدول العربيه

إنا لله وإنا إليه راجعون



بمزيد من اللوعة والمرارة، وبمنتهى التسليم بقضاء الله وقدره، ومن قمم الثلج في بلودان -مسقط رأس الفقيدة الغالية- ننعى إلى الجماهير العربية فقيدتهم الغالية "جامعة الدول العربية"، التي اختارت الانتقال إلى الملأ الأعلى بعد أن تفتت كبدها قهراً وحزناً، عن عمر يناهز الثامنة والخمسين عاما أمضتها وهي تجالد دزينة من السرطانات المستعصية المزمنة، دون أن تنعم فيه بيوم فرح واحد.

هذا ما قرأناه على وجوه وزراء الخارجية العرب، أمام عدسات المصورين، وهم يغادرون قاعة الاجتماعات، تاركين جثمان الفقيدة الغالية مسجى على طاولة الإنعاش، بعد أن اختلفوا حتى على طريقة مواراتها في مثواها الأخير، لحداً على الطريقة الإسلامية، أم تحنيطاً على الطريقة المصرية، أم حرقاً على الطريقة الهندية.

هناك طبعاً من لم يستطع ابتلاع هذا الحدث المزلزل، ولم يصدق أن صرحاً سياسياً - ثقافياً بهذه الضخامة أمضت الأمة العربية ستة عقود وهي تخترع له العكاكيز ليبقى واقفاً، يمكن أن يتهاوى بمثل هذه الطريقة السخيفة المخزية، فوقف بالباب مستلاً سيفه يصيح: من قال إن "الجامعة" ماتت قطعت عنقه، تماماً كما فعل عمر بن الخطاب يوم وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم).

وهناك طبعاً من يسيطر عليهم مرض اسمه "فوبيا المؤامرات" راحوا يهمسون في الأروقة والكواليس، ويومئون برؤوسهم إيماءة العارف ببواطن الأمور وخفاياها، عن أيدٍ خفية في أعماق الظلمات هي التي خططت ودفعت لهذا الانهيار، لولاها لظلت الفقيدة حية تسعى، ولبقيت الدنيا بخير و"الأشياء معدن".

قليلون جداً هم الذين يعرفون بدقة ما جرى في بلودان وأنشاص، وشاهدوا تفاصيل العملية القيصرية وكيف ولدت الفقيدة ميتة. وقليلون هم الذين يتفقون معي بأن "جامعة الدول العربية" ليست أكثر من "تجمع موظفين" يصرف عليه العرب من دم قلبهم عشرات ملايين الدولارات سنوياً على شكل رواتب ومهمات وتعويضات سفر ومقرات وهواتف وفاكسات وعناصر أمن ومرافقين وبدل إقامة، ومع ذلك كله لا يوجد دارس منصف يستطيع أن ينسب لها الفضل في إنجاز حضاري حقيقي واحد يرفع الرأس، له أثر في حياة الأمة العربية.

لقد عشنا ستين عاماً تحت تأثير خدعة كبيرة اسمها "جامعة الدول العربية" ترفع شعارات صحيحة الظاهر نظرياً فارغة المضمون عملياً، مثل "وحدة الصف" و"العمل المشترك" و"التعاون على البر والتقوى"، وتعقد اجتماعات تختمها ببيانات ومقررات لدول اسمها "عربية" يصر اللبناني فيها على التمسك بفينيقيته، والسوري بسومريته، والعراقي ببابليته، والمصري بفرعونيته، والفلسطيني بكنعانيته، وتنتهي الاجتماعات وهي أبعد ما تكون عن الوحدة والتعاون والعمل المشترك، وأقرب ما تكون إلى تكريس معاهدة سايكس - بيكو.

وبعد، فإن في جراب التاريخ الماضي أكثر مما ذكرنا، لكننا لسنا من أنصار تعرية الموتى من أكفانهم، ونكتفي بأن نقول للمحزونين: لكم طول البقاء، وللناقدين: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر، وللشامتين: كل شيء هالك إلا وجه الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق