الأربعاء، 11 نوفمبر 2009

أين يعبد الله؟

أين يعبد الله؟

قلنا إن الله خلق الناس أحراراً (عباداً) يعصونه بملء إرادتهم، ويعطونه بملء إرادتهم، وهذه هي كلمة الله العليا في الخلق .. الحرية. وهذه هي الكلمة التي سبقت من ربك، بأن يكون الناس أحراراً في اختيار قراراتهم وسلوكياتهم، وهي المرتكز الأساسي لمبدأ الثواب والعقاب، إذ لا حساب ولا مساءلة إلا مع الحرية.
فعندما يكره شخص شخصاً آخر على إقامة الصلاة، فقد تعدى على حاكمية الله وعلى كلمته التي سبقت، ونصب نفسه قيما على الصلاة، وأكره الناس على أدائها، وحول الخلق من عباد الله، إلى عبيد له شخصياً.
وعندما يكره شخص شخصاً آخر على ترك الصلاة، فحكمه كالأول تماماً، قد ألغى مبدأ أن تكون كلمة الله هي العليا، وقيد حريات الناس في الإختيار، وعطل بالتالي مبدأ الثواب والعقاب القائم على حرية اختيار القرار.
من هنا نفهم أن الثواب والفلاح يأتي من الله إن الإنسان الذي قبل تعاليم رب العالمين وأوامره طائعاً مختاراً، رغم أنها تحد من حريته، والتزم بأدائها دون إكراه، وهذا هو ميثاق الإسلام، أي السير طوعاً على الصراط المستقيم الذي هو عبادة الله.
وقلنا إن الله سبحانه لا يعبد في المساجد ولا في الكنائس ولا في البيع ولا في الأديرة، فهذه كلها بيوت وأماكن أذن الله أن تبنى ليذكر فيها اسمه، وليس ليعبد فيها. فعبادة الله هي اتباع الصراط المستقيم والوصايا خارج هذه البيوت وليس داخلها.
لقد جاء مفهوم عبادة الله باتباع الصراط المستقيم، في فاتحة الكتاب بشكل لا لبس فيه، حين قال تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين). ويثور السؤال في فكر السامع حين يسمع هذا القول: وكيف نعبده سبحانه؟ وكيف نستعين به؟ ويأتي الجواب مباشرة موضحاً: (إهدنا الصراط المستقيم). وتتوالى بعدها الآيات لتزيد الأمور وضوحاً في ذهن السامع، فالكتاب، أي التنزيل الحكيم، هو الهدى المشار إليه في الفاتحة كما تنص البقرة 2.
والمهتدون به هم المتقون المفلحون، الذين يؤمنون بالله ويوقنون بالآخرة ويؤمنون بما أنزل إلى محمد (ص) وإلى من سبقه ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله (البقرة 2،3،4،5). ولا يحتاج المتأمل إلى وقوف طويل ليدرك أن هذا الهدى يجمع الإسلام وأركانه والإيمان وأركانه كما سبق تفصيلهما في بحث "الإسلام والإيمان".
ولا يكاد يجاب على سؤال كيف نعبد الله، حتى يثور سؤال كيف نستعين به، وهذا شأن التنزيل الحكيم في مخاطبة ذوي العقول والألباب، وفي التوجه إلى الذين يعقلون والذين يتفكرون. ويأتي الجواب في قوله تعالى:
- (واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) البقرة 45.
- (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين) البقرة 153.
ونتذكر أن "المعين" و"الصبور" من أسماء الله الحسنى، ونلاحظ أن الله يدلنا كيف نعبده، وكيف نستعين به. ونفهم أن للاستعانة شقين هما الصبر والصلاة، يتعلقان بالإنسان شخصياً كفرد، أما العبادة فعلاقتها بالمجتمع الإنساني كله. كما نلاحظ كيف أن العبادة جاءت قبل الصلاة لأنها من أركان الإسلام، أما الصلاة فمن أركان الإيمان، أي أننا نؤمن بالله أولاً كمسلمين ونعبده (إياك نعبد)، ثم نستعين به كمؤمنين ثانياً ونقيم الصلاة (وإياك نستعين). وهكذا نرى أن كل أو معظم الناس حين يقعون في ضائقة أو مأزق فإنهم يلوذون إلى الله ويصبرون بعد أن يستنفذوا كل الإمكانيات المادية الإنسانية المتوفرة لديهم، أي علينا أن نساعد أنفسنا ونطلب من الله المساعدة.
ونقف عند قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم) ونحن نسأل: من هم الذين أنعم الله عليهم؟ ويأتي الجواب في قوله تعالى:
- (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً) النساء 69.
وهكذا نرى أن عبادة الله تتجلى في تعاليم الإسلام ووصاياه التي بدأت بنوح وختمت بمحمد، وفي الالتزام الطوعي الإختياري بمثله العليا الإنسانية. ومن هنا نشأ مفهوم الإلتزام بالقانون طاعة ومعصية، ولا يتعارض هذا مع هذا. فحرية العباد في اختيار الطاعة والمعصية، يقودهم يوم الحساب إلى الثواب والعقاب، وحرية المواطنين في طاعة ومعصية القوانين يقودهم إلى محاكمة تبريء الملتزم منهم وتوقع على المخالف العاصي العقاب الرادع.
فإذا ألقينا نظرة على تعاليم الإسلام هذه، نجد في مقدمتها التعليم رقم (1):
أن لا تشركوا به شيئاً ---> شهادة أن لا إله إلا الله ---> التوحيد رأس الإسلام
وإذا تصفحنا أخبار الأنبياء والمرسلين جميعاً في التنزيل الحكيم، لا نحجد أحداً منهم جاء ليقول للناس: إن الله موجود، بل جاءوا جميعاً ليقولوا: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) "التوحيد". ذلك لأن الله سبحانه خلق الإنسان والله موجود في فطرته، ولا يحتاج لمن يقول له إنه موجود.
من هنا جاءت عقوبة الإجرام والمجرمين (الإلحاد وإنكار وجود الله) صارمة جداً في التنزيل الحكيم، لأنهم بإجرامهم وإنكارهم خالفوا الفطرة التي فطروا عليها. ومن هنا يمكن القول إن أهل الأرض قاطبة يولدون مسلمين، وإن وجود الله في الذهن الإنساني لا يحتاج إلى رسل وأنبياء، إذ هو فطرة جبل الله خلقه عليها، كما في قوله تعالى:
- (فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذك الدين القيم ..) الروم 30.
فإذا انتقلنا إلى التعليم رقم (2) من تعاليم الإسلام(1)، نراه في بر الوالدين. فكيف يمكن أن يكون ثمة بر بالوالدين إن لم تكن هناك أسرة، وكيف تكون الأسرة دون زواج، وكيف يكون الزواج دون أسس وأركان مادية يقوم بها، من بيت وأثاث وثياب .. الخ.
فإذا انتقلنا إلى البند الثالث من هذه التعاليم الإسلامية، نجده ينهى عن قتل الأولاد بداعي الفقر. فكيف نطبق هذا البند إذا لم يكن هناك مجتمع، ولم تكن هناك أزمات اقتصادية.
وإذا أخذنا البند الرابع، وهو النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فكيف نطبقه إذا لم يكن هناك جنس ورغبات جنسية، والرجل لا يرى المرأة إطلاقاً، بل لا يرى إلا محارمه. وكيف يمكن تطبيقه على اللواط والسحاق إذا لم يكن هناك جوع جنسي في مجتمع أغلق أبوابه على رجال لوحدهم ونساء لوحدهن خلف أسواره العالية.
وكيف نطبق البند الخامس في النهي عن قتل النفس، إذا لم يكن هناك مجتمع فيه صراعات وثارات وضغائن وأحقاد شخصية (مجتمع حي) .
وكيف نأتمر بعدم الإقتراب من مال اليتيم، إذا لم يكن هناك حب للمال في داخلنا، ولم يكن هناك مجتمع يسود فيه مفهوم إكرام اليتيم.
وكيف نوفي الكيل والميزان ونقيمهما بالقسط، إذا لم يوجد مجتمع فيه تبادل تجاري وصناعة وزراعة، تتطلب كلها مقاييس ومواصفات.
وكيف يمكن تطبيق بند (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) إلا في مجتمع إنساني حي فيه معاملات وأناس يختصمون.
وكيف نلتزم بالوفاء بعهد الله، إذا لم يكن هناك دولة ومجتمع ومهن وزواج، ومواثيق تقوم عليها الأحزاب والجمعيات.
وكيف نطبق مبدأ (ولا تجسسوا) إلا في مجتمع تتوفر فيه إمكانيات التجسس، وقابلية التجسس.
وكيف نلتزم بدخول البيوت من أبوابها، إلا في وجود مدن وقرى وشوارع وبيوت لها أبواب.
من هذه الأمثلة وغيرها كثير، يتبين لنا أن التعاليم الإسلام، تطبيقاً والتزاماً، حقلاً واحداً تنصب فيه هو الحياة المعاشة بكل أبعادها. والإنسان الذي يحيا أبعاد هذه الحياة، هو الإنسان الذي يحتاج أن يكون مسلماً. لأنها هي حقل توظيف تعاليم الإسلام، وفيها ومن خلالها يعبد الله فيطاع أو يعصى بملء الإرادة والإختيار. أي أننا لا نعبد الله إلا إذا عشنا الحياة الدنيا بكل أبعادها، إذ لا يمكن أن يثاب الإنسان في الآخرة أو يعاقب، إلا إذا عاش الحياة الدنيا، واختار فيها بملء إرادته أن يعمل صالحاً أو أن يعمل صالحا. فالآخرة كما قلنا ليس فيها عبادة وليس فيها تكاليف، بل فيها حساب وثواب أو عقاب.
من هنا نقول إن الزهد وهجر الدنيا تحت أي اسم وعنوان رفض صريح لعبادة الله كما نفهمها. فإذا قال قائل إن الحياة الدنيا جسر ومعبر قصير إلى الآخرة، قلنا وهل يحدد مصير الإنسان في تلك الآخرة إلا عبادته لله في هذه الدنيا، هذه العبادة التي لا تكون إلا بأن يعيش الحياة الدنيا بكل أبعادها.
ون هنا نقول إن على المسلم العابد لله فعلاً، أن يطلب الدنيا كاملة ليعبد الله من خلالها، ولكي يطلب الدنيا عليه أن يفهم ويعي قوانينها، (قوانين الوجود الكوني والإجتماعي)، فعبادة الله والإلتزام بمثل الإسلام العليا لا تتحقق إلا بهذا الفهم والوعي.
لقد عرف سبحانه الحياة الدنيا في تنزيله الحكيم تعريف وصف جامع مانع، لا ظل فيه للذم أو القدح كما يذهب البعض، ليعلمنا ما هي الحقول التي نوظف فيها تعاليمه لنعبده من خلالها، ونسير طائعين مختارين على الصراط المستقيم الذي رسمته لنا هذه التعاليم، فقال سبحانه:
- (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً، وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) الحديد 20.
نبدأ بفعل لعب. فاللام والعين والباء كلمتان منهما يتفرع كلمات. فاللعب معروف، والملعب مكان اللعب، واللعبة اللون من اللعب، واللعبة اسم المرة. والثانية اللعاب وهو ما يسيل من الفم (ابن فارس ج5).
وننتقل إلى فعل لهو. فاللام والهاء والحرف المعتل أصلان صحيحان، أحدهما يعني الشغل بشيء عن شيء، والآخر نبذ شيء من اليد. ومن الأموال اللهو، وهو كل شيء شغلك عن شيء وألهاك، ولهوت من اللهو، ولهيت عن الشيء إذا تركته لغيره. ويقولون إذا استأثر الله بشيء فاله عنه، أي اتركه ولا تشتغل به. وفي هذا قال تعالى (لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين) الأنبياء 17.
أما الأصل الآخر فهو اللهوة، وهو ما يطرحه الطاحن في ثقب الرحى بيده والجمع لهى. وبذلك سمي العطاء لهوة (ابن فارس ج5).
وأما الزينة فهي كل ما يتزين به الناس من أشياء وأماكن، والزينة تدخل في الشهوات.
فخر: الفاء والخاء والراء أصل صحيح يدل على عظم وقدم. يقولون في العبارة عن الفخر هو عد القديم. قال أبو يزيد فخرت الرجل على صاحبه أفخره فخر أي فضلته عليه. والفخير الذي يفاخرك بوزن الحطيم. والفخير الكثير الفخر. والفاخر الشيء الجيد. والتفخر التعظم. والناقة الفخور العظيمة الضرع القليلة الدر. (ابن فارس ج4، ص481) . ونأتي الآن على شرح آية الحديد 20.
1 - يقول تعالى إن الحياة الدنيا لعب، أي أنها لعبة لكل إنسان دور فيها، كبيراً كان هذا الدور أم صغيراً. وأن هذه الحياة تعاش مرة واحدة، فهي كاللعبة التي لا تلعب إلا مرة واحدة. وعلى الإنسان أن يحرص على أن يلعبها ويؤدي دوره فيها.
2 - ويقول تعالى إن الحياة الدنيا لهو. واللهو كما نفهمه من أصل معانيه واشتقاقاته، هو المعبر عن حركية الحياة الدنيا، وهو البند الأول لكي يلعب الإنسان دوره، فينتقل (يلهو) من وجه من وجوه الحياة إلى وجه من وجوه الحياة إلى وجه آخر. فالإستيقاظ يلهي الإنسان عن النوم، والأكل يلهيه عن كرة القدم، والخروج من البيت يلهيه عن الموت المكوث فيه، والسفر يليه عن اجترار الأحزان، والحزب يلهي عن الإستمتاع بروائح الزهور، وكلما زادت بنود اللهو عند الإنسان زادت حركية الحياة عنده والعكس صحيح، فكلما كان اللهو عنده أكثر، كانت حياته ديناميكية أكثر.
ولهذا نسمي مدينة الملاهي بهذا الاسم، لما فيها من ألعاب تلهي كل منها عن الأخرى، وتلهي بمجموعها عن الأرق والإنقباض والتقوقع. وكذلك يقال في الموسيقى والغناء. أي أن اللهو هو بنود الحياة ذاتها بعجرها وبجرها، وكلما زادت هذه البنود كانت الحياة مليئة أكثر. من هنا فإن أقل الناس لهواً في الحياة هو السجين الذي يحيا داخل جدران أربعة. فبنود الحياة تقلصت عنده إلى حدها الأدنى، والذي لا يلهو هو الذي لا يفعل شيئاً، وهو الذي لا يحيا بنود الحياة، وهذا الوضع أسوأ من وضع البهائم.
ونلاحظ أن العبادة، عبادة الله طاعة ومعصية، واضحة في بنود اللهو وبنود الحياة وفي تنوع هذه البنود. فإذا انتقل الإنسان من حالة الخمول والكسل ليتلهى عنها بالعمل، فهو يعبد الله طاعة لآمره تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ..) التوبة 105. وإذا أكل وشرب وتحرى الحلال الطيب في مأكله ومشربه، فهو يعبد الله طاعة لآمره في قوله تعالى (كلوا من طيبات ما رزقناكم ..) طه 81. وإذا أنفق فأسرف، فهو يعبد الله معصية لأوامره، وكذلك إذا غش بالمواصفات ولم يقسط في الكيل والميزان، فهو يعبد الله عاصياً لأوامره. ولهذا نقول كلما زادت بنود اللهو (حركية الحياة) كبرت إمكانية عبادة الله في الطاعة والمعصية، وأصبحت إمكانية إتباع الصراط المستقيم واقعية موضوعية.
حين يقول تعالى (لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين) الأنبياء 17. فهو يعني أن خلقه لنا ليس لهواً له، يشغله عن أمور أخرى، إذ اللهو بمعنى الإنتقال والإنشغال بشيء عن شيء لا ينطبق عليه، سبحانه وتعالى عما يصفون.
ثمة دور ولهو سيء يمكن أن يتفرغ له الإنسان، ورد في قوله تعالى:
- (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً، أولئك لهم عذاب مهين) لقمان 6.
هنا يتوعد سبحانه بالعذاب المهين، الذين يتفرغون ويجعلون دورهم في الحياة الدنيا تفرغا ليضلوا الناس على سبيل الله، ويهزأون من سبيل الله وصراطه، كأن يفرغ الإنسان نفسه وحياته لنشر الفاحشة والدعوة إليها، ولنشر الغش والجريمة قائلاً بسخرية: وماذا أفاد الناس من استقامتهم وصدقهم؟. أما ا يذهب إليه البعض في فهم (لهو الحديث) أنه الغناء والموسيقى والرقص وأنواع الفنون الأخرى، فهو ليس عندنا بشيء.
وبما أن عبادة الله لا تكون إلا خارج المساجد والكنائس والبيع والصلوات، فنحن نفهم أن المساجد والصلاة لذكر الله، وهي لهذا لا تدخل ضمن بنود اللهو، ولهذا فصلها تعالى عن بنود اللهو الأخرى في الحياة بقوله تعالى:
- (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ..) الجمعة 9.
- (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً، قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة، والله خير الرازقين) الجمعة 11.
3 - ويقول تعالى إن الحياة الدنيا زينة. ولقد شرحت في (الكتاب والقرآن) مفهوم الزينة في بند الشهوات. فقد وردت الزينة في قوله تعالى:
- (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسمومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب) آل عمران 14.
- (.. ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن ..) النور 31.
وقلنا إن النساء في آية آل عمران 14 تعني ما تأخر واستجد من الأشياء وليس جمع امرأة، فالمرأة ليست شيئاً وليست من متاع الدنيا. وأن البنين هي الأبنية وليس الأبناء، فالأبناء ليسوا أشياء ومتاع، وقلنا إن الزينة في آ]ة النور 31 هي الزينة المكانية الظاهرة والمخفية. وإن النساء في الآية (أو نسائهن) هم النسل المستجد المتأخر لمن ذكر في الآية كالأحفاد وأبناء الأحفاد.
وهنا نرى أن بنود الزينة هي آلية اللهو، وهي المواضيع المادية المباشرة التي يقع عليها اللهو. فالنوم يحتاج إلى منزل وغرف نوم وفرش وأغطية، واللهو عن النوم بالأكل يحتاج إلى أنعام (لحم، حليب، بيض ..) وإلى خبز يحتاج بدوره إلى زراعة وأدوات زراعية، وهكذا. أي أن الزينة هي الممارسة المادية لبنود اللهو التي يعبد الله طاعة ومعصية من خلالها. وكلما كثرت بنود الزينة تاق الإنسان أكثر إلى مزيد، وزادت بنود اللهو، وبالتالي زادت إمكانية عبادة الله وزادت حركية الحياة.
4 - ويقول تعالى إن الحياة الدنيا تفاخر بين الناس. وهذا ما نراه موضوعياً إذا نظرنا إلى كل أهل الأرض، من الجانب الإيجابي الشيء الجيد هو الفاخر، فنقول لباس فاخر ومنزل فاخر. وفي الصناعة نقول إن المرسيدس فخر صناعة السيارات الألمانية، والإلكترونيات فخر الصناعة اليابانية. أما نحن العرب فليس لدينا سوى التخلف والإستبداد بجميع أنواعه وحجاب المرأة وذكورية المجتمع نفخر بها على الناس كافة. لولا أنه في التخلف يعبد الشيطان وليس الله، لأن مواد اللهو المفيد عندنا شبه معدومة، ومن هنا نقول إننا أقل عباد الله عبادة لله بعد أن ضيقنا على أنفسنا المجالات الحيوية لهذه العبادة.
إن المعنى الإيجابي للتفاخر الذي رسمه تعالى بنداً من بنود تعريفه للحياة الدنيا، هو التفاخر بالإنتاج وبالإستهلاك فهو أساسيات الحياة الدنيا ومن متطلباتها، وعلينا أن نسعى إليه ونطمح دائماً، طموحنا إلى حياة أفخر وأفضل، وهو من نعم الله على عباده مكمل لنعمة الحياة ونعمة الحرية ونعمة العقل.
من التفاخر بالزينة كبنود للهو، تظهر بنود المثل العليا (الصراط المستقيم) وفيها المجال الموضوعي لعبادة الله طاعة (باتباع الصراط المستقيم) ومعصية (بتركه وانتهاج سبيل آخر غيره).
5 - ويقول تعالى إن الحياة الدنيا تكاثر بالأموال والأولاد. فإذا نظرنا إلى أهل الأرض، نجد أن التناسل والإنجاب وجمع الثروة هو القاسم المشترك بينهم جميعاً. فلا يوجد شعب من الشعوب ولا أمة من الأمم كانت أو كائنة أو ستكون إلا وجمع المال والإنجاب أساس الأسس عند أفرادها وجماعاتها. فلولا المال لما كان هناك أمانة وسرقة وغش، ولما كان هناك ظلم في الأحكام وشهادة زور، ولولا الأولاد لما كانت هناك أسرة وزواج وعقود ومهور ونفقة وطلاق وميراث، ولما كان هناك حقول يتم صرف المال فيها. بمعنى أننا لا يمكن أن نتصور إنساناً في كهف بدائي، ومعه مليون قطعة ذهبية، ونقول هذه هي الحياة الدنيا.
لقد ذهب الكثيرون إلى فهم وصفه تعالى للحياة الدنيا في آية الحديد 20، بأنه سبحانه يذمها ويحط من قدرها، لكننا لا نجد في الآية أكثر من وصف دقيق لها لإمكان فيه لذ أو قدح.
ولو أننا جردنا الحياة الدنيا مما يزعم أنه محط ذم، فماذا يبقى منها؟ تصوروا معي حياة دنيا ليس فيها دور للإنسان (لعب) وليس فيها شيء يشغله عن شيء آخر (لهو) وليس فيها بيوت وأنعام وذهب وفضة (زينة) وليس فيها تكاثر بالأموال والأولاد.. فماذا يبقى من مجالات نعبد الله فيها؟ وهل يطاع الله في لا شيء أو يعصى في لا شيء؟ وهل تكون حرية الإختيار في لا شيء، ويأتي الثواب والعقاب يوم الحساب على لا شيء؟
باختصار، حين نقرر أن هذه الصفات التي وصفها تعالى للحياة الدنيا هي محل ذم، وندعو إلى تركها والزهد فيها، فنحن نقرر ألا نعبد الله لا طاعة ولا معصية بعد أن حذفنا كل المجالات التي يطاع فيها ويعصى (يعبد).
لهذا، فالإنسان الذي يؤمن بأن تكون كلمة الله هي العليا، هو الذي يطلب الدنيا ويعيشها بكل أبعادها، لأنها لا تتاح له إلا مرة واحدة، وهو الذي يحيا الحياة عابداً الله طاعة ومعصية، يريد أن يختبر مصداقية المثل الإسلامية العليا (الصراط المستقيم). أما إذا كان الأمر غير ذلك، فلا معنى للحساب والجنة والنار، ومعناه أن الله خلقنا عبثاً، تعالى الله عما يصفون.
من هنا فإن أول بند من بنود هذه الحياة، التي نحياها مرة واحدة، هو أن نحرص عليها. وأن طموح مشروع وهبه له الله.
ينتقل تعالى في الآية بعد ذلك كله، إلى تشبيه الحياة الدنيا ولهوها وزينتها بالغيث يخرج نباتاً يهيج ثم يصفر ثم يصبح حطاماً. ونفهم أنه تعالى يشير إلى قانون (كل شيء هالك إلا وجهه) كنهاية لهذه اللعبة واللهو والزينة. وأنه تعالى يذكرنا بأن البيت الفاخر والثوب الفاخر يبلى مع الزمن، وأن على الإنسان ألا ينسى وهو يلعب لعبة الحياة هذه حراً في طاعته ومعصيته، أن السعادة نسبية، وأن كل ما يقوم به الإنسان يبلى ويمكن تجاوزه، ما عدا المثل العليا المتمثلة بالصراط المستقيم فهي ثابتة باقية. إذ هي التي يتعبد بها الإنسان سواء كان في خيمة أو في قصر، على جمل أو في صاروخ.
ولولا أن كل شيء يبلى ويمكن تجاوزه، أي لولا قانون كل شيء هالك إلا وجهه، لمات الأمل والطموح، واندثرت الجامعات ومعاهد البحث العلمي، ولتوقفت الصناعة والتجارة والزراعة والخدمات، لأن الهلاك فيه ديناميكية الحياة نفسها. ونلاحظ أنه تعالى يشبه الحياة الدنيا بالغيث، والغيث لا يرد في التنزيل الحكيم إلا في مجال الرحمة، أما المطر ففي مجال السخط والعذاب. كما نلاحظ كيف رسم في صورة النبات قانون التطور والهلاك الذي هو أساس الطموح في هذه الحياة الدنيا، وعصبها ومحركها الأساسي.
ثم تأتي نهاية الآية بقوله تعالى (.. وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان ..)، لتربط لنا بوضوح هذه الصورة والوصف للحياة الدنيا بحرية الإنسان فيها بأن يعصى فله في الآخرة العذاب الشديد، وبأن يطيع فيفوز بمغفرة الله ورضوانه. فإذا عشنا الحياة الدنيا بكل ما فيها من لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر، وعبدنا الله مختارين الطاعة والمعصية بملء إرادتنا، وصلنا إلى الآخرة حيث الثواب والعقاب بعد الحساب.
ويختم تعالى الآية بقوله (.. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). وذلك ليؤكد على أن الحياة الدنيا بكل ما سبق من وصفها لا يمكن أن تصل إلى الكمال، بل هي في تطور من حال إلى حال، وانتقال من طموح إلى طموح تال. فإذا بلغ التطور والطموح حد الكمال مات الأمل كما قلنا، وتوقفت عبادة الله طاعة ومعصية. وهذا سر الشهوة الأول عند الإنسان للمستجدات من كل شيء (النساء).
فالغرور في الآية هو عدم النضوج والإنتهاء إلى الكمال، وما دامت كذلك فستظل تسير من حال إلى حال أحسن. فليس في الحياة الدنيا نهاية مطاف، بل جيل يتجاوزه جيل، وصناعة تتجاوزها صناعة، وثياب جميلة تحل محلها ثياب أجمل .. وهنا تكمن لذة الحياة والعمل والطموح، وهنا يعبد الله سبحانه طاعة ومعصية، وهكذا نفهم قوله تعالى (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) الحجر 99، حيث لا تنتهي العبادة إلا بالموت، هنا لا بد من التنويه بأنه إذا عبد الله في الحياة الدنيا (البنود المذكورة أعلاه) طاعة دون معصية فهذا يعني أن الإنسان يذكر الله (لم ينسه البتة) في ذاكرته وفي عقله، لهذا ختم الوصايا الخمس الأولى في سورة الأنعام بقوله (.. لعلكم تعقلون) والأربع التي تليها بقوله (.. لعلكم تذكرون) والوصية العاشرة ذكر فيها (.. لعلكم تتقون) تقوى التوحيد والعمل الصالح.
وهكذا نفهم قوله تعالى من أن ذكر الله أكبر من الصلاة (.. وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون) العنكبوت 45. فهذه الآية جمعت بين الله في الوجدان (الصلاة) والله في الذاكرة والعقل (العبادة)، ولذا أمرنا الله تعالى بعد صلاة الجمعة أن نذكره كثيراً بقوله (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) الجمعة 10.
وكذلك يمكن الآن أن نربط بين قوله تعالى في سورة المائدة (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، والله يحب المحسنين) المائدة 93. وبين قوله تعالى (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً، وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان، وما الحياة الدنيا إلى متاع الغرور) الحديد 20. أي أن المجال الذي يتحقق فيه "طعموا" هو الحياة الدنيا بكل بنودها المتتالية التي شرحت أعلاه، لعب ولهو وزينة وتفاخر (منافسة) وتكاثر في الأموال والأولاد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق