الثلاثاء، 10 نوفمبر 2009

الإسلام والإيمان

مقالة الإسلام والإيمان (1)


منذ أحداث 11 إيلول (سبتمبر) تتعرض الثقافة العربية الإسلامية إلى هجوم خارجي شرس، لذا كان لابد من وقفة من التراث والنظر إلى ثقافتنا من الداخل نظرة نقدية لإعادة التقييم لأنه من المستحيل أن تكون الثقافة العربية الإسلامية التقليدية في خير وعافية مع هذا المستوى الثقافي المتدني وخاصة فيما يتعلق بالأمور السياسية وبأمور الدولة والمجتمع، وهل هناك فعلاً صحوة إسلامية، وهل هناك أشياء من أوليات الثقافة العربية الإسلامية يجب إعادة النظر فيها، علماً أنه إلى الآن عدد المنادين بإعادة تأصيل الأصول مازال قليلاً. فما هي هذه الأصول التي تلح على إعادة النظر فيها .

مقدمة وتمهيد:

اعتدت في كتبي وفي محاضراتي وندواتي وفي أحاديثي ومقابلاتي أن ألح بالإشارة إلى مسلَّمتين أنطلق منهما، ولاتقبلان عندي النقاش، ولاتحتاجان إلى إثبات أو برهان، هما :
أنني عربي مسلم، أؤمن بالله واليوم الآخر والعمل الصالح وهو إيمان التسليم .

أنني مؤمن بأن محمداً رسول الله، وبأن رسالته الوحي الخاتم مابين دفتي المصحف المكمل لما سبقه من رسالات سماوية موحاة، وبأنها ضرورة لازمة لنقل الإنسان من التشخيص إلى التجريد، إيذاناً ببدء اعتماد العقل في كشف أغوار الكون والوجود وهو إيمان التصديق.

إن آيات التنزيل الحكيم تعتبر دليلاً إيمانياً (إيمان التصديق) ولايمكن أن تكون دليلاً علمياً وعلى أتباع الرسالة المحمدية البرهان على مصداقيتها من خارجها انطلاقاً من معرفة قوانين الوجود الكوني والوجود الاجتماعي الإنساني. لذا فإن تطور المعارف الإنسانية وتطور التاريخ الإنساني ككل هما صاحبا الحق الوحيد في إظهار مصداقية كلام الله في التنزيل الحكيم وليس من الضروري أن تظهر هذه المصداقية على لسان صحابي أو تابعي أو فقيه.

ولقد وهم البعض في فهم إلحاحي على هذه المسألة، باعتبارها ثانويةً عند قسم منهم، أو لاأهمية لها على الإطلاق عند قسم آخر. وأخطأ البعض الآخر في تحديد سبب إلحاحي، فنسبه قسم منهم إلى غاية هنا، ونسبه قسم آخر منهم إلى مقصد هناك. والأمر برمته لاغاية فيه ولا قصد، ولا محل فيه لوهم محللٍ ولا لخيال مؤول.

المسألة أن من يتأمل أسماء الذين يكتبون في الحداثة والمعاصرة، وفي الخطاب الديني، ويبحثون عن نقطة ارتباط بين ذهن اليوم ورسالة الأمس في النص القرآني، يجدهم أصنافاً شتى، فيهم المستغرب والمستشرق، وفيهم أساطين علم الأديان المقارن، وفيهم المتحمس للدعوة إلى الإسلام كما قرأه عند الشافعي والنعمان وقتادة، وفيهم المترف المحايد الذي ينظِّر للإسلام من خارج دائرة الإسلام، وفيهم المستعرب (العلمانوي) الذي ولد بالصدفة من أبوين مسلمين، وراح يضع للنص القرآني إطاراً يرضي به أساتذته وتلامذته في السوربون.

والمسألة ، أن من يتأمل ما كتبه هؤلاء، ولايجد مايعينه على فهم أفضل للنص القرآني، ولايجد أجوبة على تساؤلات، وحلولاً لإشكالات طالما حار فيها قراء هذا النص على مدى قرون، لسبب بسيط هو أنهم يقرؤونه بعين الطبري حيناً وبعين الطبرسي حيناً وبعين السيوطي أحياناً، دون أن يخطر لأحدهم مرة واحدة أن يقرأه بعين نفسه وعصره.

وكان لا بد – لأخرج نفسي من هؤلاء جميعاً – أن أحدد هويتي للقارئ والسامع، وأرسم معها منطلق وهدف ما أكتب وأقول، مشيراً بكل وضوح إلى أن ما أكتبه وما أقوله ليس فقهاً.. وليس دعوة للملحدين إلى الإيمان.. ولا دعوة إلى القطيعة مع التراث .. ولا نبذاً وإنكاراً للسنة النبوية الصحيحة .. وإنما هو تأصيل لفقه جديد، وهو دعوة إلى القراءة بعين العصر وأرضيته العلمية وإشكالاته الاجتماعية والسياسية، في محاولة لفهم ما يريد التنزيل الحكيم أن أفهمه، وما يريد منـزِّل هذا التنزيل أن ألتزم به من خلال استعمال أدوات معرفية معاصرة وخاصة في علوم الألسنيات، حيث أن الإنسانية تقدمت بكل أنواع العلوم بما فيها اللسانيات بالإضافة إلى تبني العقل الفلسفي عوضاً عن العقل الشعري، علماً بأن أي قراءة لأي نص وخاصة النص الإلهي هي بالضرورة تحديد لمطلقية النص ضمن الزمان والمكان والأدوات المعرفية، ومع تغير هذه الأدوات يتم الانتقال من فضاء معرفي إلى فضاء معرفي آخر وكانت الخطوة الأولى هي:

إنكار الترادف:

كان القول بالترادف من أوائل ما استوقفني في الخطاب العربي السائد، سواء الديني منه أم الأدبي أم السياسي أم الفكري، وكان إنكار الترادف أول ما قادني إلى التمييز بين الكتاب والقرآن والنبي والرسول والنبوة والرسالة، تماماً مثلما ميز التنزيل الحكيم بين المحكم والمتشابه في آياته المباركات.

يقول الإمام العسكري : "لكل لفظ صورة ترتسم في الذهن، فإذا اختلف اللفظ، تغيرت الصورة، فارتفع الترادف" . وبما أن المعرفة الإنسانية تكتشف الجديد كل يوم ولابد لكل جديد من لفظ يعرف به، لذا فإن للغات كائن قابل للتطور والنمو وخاصة في دلالات الألفاظ. وأكثر ماتنطبق هذه الخاصية على دلالات ألفاظ التنزيل الحكيم نظراً لصلاحيته لمختلف العصور ولمختلف نظم المعرفة، وضمن هذا المنطوق يمكن إعادة صياغة الثقافة العربية الإسلامية برمتها من خلال إعادة النظر في المفاهيم والأدوات.

ويقول الإمام ابن تيميه: الترادف في لسان العرب قليل، أما في القرآن فنادر أو معدوم. فإذا وجدت من يفسر قوله تعالى (ذلك الكتاب لاريب فيه) بأنه "هذا القرآن لاشك فيه" فاعلم أنه من باب التقريب، لأن " ذلك" غير "هذا"، و "الكتاب" غير "القرآن" و "الريب" غير "الشك" .

وقد كان يمكن لمسألة القول بالترادف أو إنكاره أن تبقى مسألة مجمعية أكاديمية بحتة، لولا أن القول بالترادف قاد إلى تجويز رواية الحديث النبوي بالمعنى، وإلى اعتبار القياس في أصول الفقه من مصادر التشريع، وإلى تأليف معاجم تفسر الكذب بالإفك، والإفك بالافتراء، والافتراء بالبهتان، والبهتان بالكذب، فلا يفهم أحد فرق هذا عن ذاك إلا من رحم ربي، وإلى تأطير لقواعد اللغة العربية، كما فعل سيبويه وتابعوه من بعده، انطلاقاً من أن ذهب ومضى وانطلق وبارح وغدا وراح كلها مترادفات بمعنى واحد. وانطلاقاً من الحفاظ على الشكل اللفظي دون الدخول في المحتوى الدلالي وهذه علة العقم في النحو العربي الذي يقود الناس إلى أوهام في فهم التنزيل الحكيم.

من هنا، كان لابد ، ونحن ندعو إلى قراءة معاصرة للتنزيل الحكيم، من أن ننكر الترادف ونبحث عن الفرق مهما كان دقيقاً بين الأب والوالد، والشاهد والشهيد، والعباد والعبيد، والتفسير والتأويل، والحرب والقتال، والشرك والكفر، والذنب والسيئة، والدين والملة، والإسلام والإيمان، علماً بأن البحث عن الدقة في كل شيء هي سمة هذا العصر. فالأولى أن نبحث عنها في قراءة التنزيل الحكيم لأن هذه الدقة بالضرورة ستؤدي إلى تغيير في الأحكام والمفاهيم الفقهية والعقائدية.

والترادف عند القائلين به قسمان: ترادف ألفاظ على معنى واحد وأمثلته واضحة فيما سلف، وترادف معانٍ على لفظ واحد، كالظن الذي يعني الشك واليقين، وكالجون الذي يعني الأسود والأبيض، والبون والبين الذي يعني البعد والقرب. فقولنا: بان يعني ظهر وقرب، ومنه البيان والتبيين والإبانة والبينة. ويعني اختفى وبعد. يقول تعالى (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) البقرة 168، 208. والمبين هنا تحتمل الوجهين معاً، فالشيطان عدو الإنسان الظاهر والخفي، ونحن أميل إلى اعتباره العدو الخفي في مصطلح المبين، تماماً كقول كعب بن زهير في لاميته: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول، فالذي أسقم الشاعر وذهب بعقله هو قرب سعاد منه وبعدها عنه في آن معاً . وهذا النوع من الترادف الذي لايفسره إلا السياق أخطر على فهم التنزيل الحكيم من سابقه، لأن قارئ التنزيل لايجيز لنفسه، ولايجيز التراثيون له، أن يخرج عن المعنى الذي ذهب إليه المفسرون الأوائل ونضرب لذلك مثلاً.

فالترتيل عند جميع المفسرين في قوله تعالى (ورتل القرآن ترتيلا) المزمل 4. هو حسن الصوت وإبانة مخارج الحروف والتمهل في القراءة. وعلى هذا المعنى التراثي للترتيل بالذات استند الإمام الماوردي في كتابه "الحاوي" لتجويز قراءة القرآن بالألحان الموسيقية. ومن هنا فنحن نجد اليوم في العالم الإسلامي نقابات لقراء القرآن الكريم، يتقاضى العضو فيها عن قراءته في الأفراح والأتراح أجراً يزيد في الليلة الواحدة عن راتب شهر لموظف في الدولة.

ونحن لن نستشهد بالفيروزأبادي ولا بالجواهري ولا بالزمخشري بحثاً عن المعاني الأخرى للترتيل. سنعرض فقط ما يقوله " المعجم المدرسي" الذي أصدرته وزارة التربية السورية عام 1985: رتَلَ الثغرُ: انتظمت أسنانه وتناسقت . والرَّتـل : حسن التناسق والانتظام، والجماعة من الجند أو الخيل أو السيارات يتبع بعضها بعضاً.

فإذا عدنا إلى سورة المزمل، وجدناه تعالى في الآيات الخمس الأولى يقوله لنبيه الكريم المتلفف بالأغطية أن يقوم الليل ويرتل القرآن ويتأهب لما سيلقى عليه من وحي وذكر ثقيل. ولا يعقل مطلقاً – إذا أخذنا بالمعنى التراثي للترتيل – أن يكون التغني بالقرآن على الألحان بصوت حسن باباً من أبواب التأهب لتلقي الرسالة السماوية بمسؤولياتها الجسام.

والأخطر من ذلك كله أن جميع ترجمات القرآن إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية والروسية اعتمدت هذا المعنى التراثي تحديداً. أنظر مثلاً : ترجمة معاني القرآن إلى الإنكليزية، مجمع الملك فهد بن عبد العزيز، المدينة المنورة، 1417 هـ. وانظر أيضاً: ترجمة القرآن، ن . ج . داوود ، بنغوان ، بريطانيا، الطبعة الأولى 1956. وانظر أيضاً : ترجمة معاني القرآن الكريم، عبد الله يوسف علي، مقدمة أبو الأعلى المودودي، الطبعة الأولى 1934، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت / لبنان.

وانطلاقاً من توخي الدقة في دلالات الألفاظ نأتي على موضوعنا مباشرة وهو :

الإسلام والإيمان:

تعتبر الأدبيات الإسلامية التراثية – ومعظم المعاصرة – أن المسلمين هم أتباع محمد (ص). فالبخاري ومسلم في صحيحهما يعتبران الإيمان إسلاماً والإسلام إيماناً، فيفتتحان باب الإيمان بحديث النبي (ص) : بني الإسلام على خمس. ونخلط نحن الآن باسم الترادف بين المسلمين والمؤمنين وبين الكافرين والمشركين والمجرمين. لكننا رأينا التنزيل الحكيم يفرق بكل دقة تليق بعظمة مؤلفه وصانعه بين هذه المصطلحات جميعاً. ونقرأ قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام..) آل عمران 19. وقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه..) آل عمران 85. ونتساءل: ماهذا الدين الذي لايقبل الله من الخلق غيره، وما تعريفه ومواصفاته .

1 - الإسلام:

نقرأ قوله تعالى:
- (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون) آل عمران 83
- (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات ..) الأحزاب 35.
- (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين) يونس 90.
- (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين) النمل 91.
- (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) الذاريات 35،36.
- (وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) يونس 84.
- (قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) النمل 44.
- (.. قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) آل عمران 52.
- (فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين) يوسف 101.
- (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل واسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون) البقرة 133.

ونلاحظ في الآيات أعلاه أمرين: الأول أن نوحاً وإبراهيم ويعقوب وإسماعيل وإسحق ويوسف وموسى وعيسى وسليمان كانوا مسلمين جميعاً . والثاني أن الإسلام يرتبط بالله وحده فقط.
ونفهم أن الإسلام يقوم على مسلّمة الإيمان بالله ووحدانيته وباليوم الآخر. والمسلمة هي الأمر الذي لايمكن البرهان عليه ولايمكن دحضه علمياً. ففي مسلمة الإيمان بالله واليوم الآخر يتساوى الراسخون بالعلم وعامة الناس. ثم ننطلق من هذا الفهم لنفهم أمرين آخرين:
1 - أن الإسلام دين كوني، لايقتصر على أهل الأرض فقط، بدليل قوله تعالى (وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً). وهذا يعني أنه إذا كانت هناك مخلوقات عاقلة في مجرة من مجرات هذا الكون، فالتنزيل الحكيم يقول أنها سمعت بالله الواحد وأسلمت له طوعاً من باب الألوهية وكرهاً من باب الربوبية، وأن الدين عندها هو الإسلام بمفهوم وجود الله وواحديته وهو أمر في غاية المنطقية، لأن الله سبحانه وتعالى ربنا ورب السموات والأرض ورب كل شيء في هذه السموات والأرض وما بينهما.
2 - إن نوحاً وإبراهيم ويوسف ويعقوب وسليمان وموسى وعيسى كانوا مسلمين، ومع ذلك فهم لم يعاصروا محمداً (ص) ولم يشهدوا برسالته ولم يصوموا رمضان، مما يجعلنا نجزم بأن الإسلام والمسلمين لاعلاقة لهم بالرسالة المحمدية ولا بغيره من الرسل والأنبياء السابقين، بل ذلك مرتبط حصراً بالله ووحدانيته. فكل من آمن بالله واليوم الآخر (وهي مسلمة) كان مسلماً، بغض النظر عن الرسول الذي يتبعه، وعن التسمية التي نطلقها عليه. وهذا واضح في قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولاخوف عليهم ولاهم يحزنون) البقرة 62.
من هذه الآيات وغيرها كثير، نفهم أن الإسلام يقوم على مسلمة بوجود الله، وباليوم الآخر. فإذا اقترنت هذه المسلمة بالإحسان والعمل الصالح، كان صاحبه مسلماً، سواء أكان من أتباع محمد (ص) (الذين آمنوا) أو من أتباع موسى (الذين هادوا) أو من أنصار عيسى (النصارى) أو من أي ملة أخرى غير هذه الملل الثلاث مهما كان اسمهم (الصابئين).

2 - أركان الإسلام:

بعد أن تعرفنا على الإسلام من واقع آيات التنزيل الحكيم، وفهمنا ماهو هذا الدين الذي لايقبل الله من عباده غيره، وعرفنا أنه يقوم على ثلاث دعائم هي الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، ووجدنا ذلك كله واضحاً في قوله تعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين) فصلت 33. ننتقل لنتساءل: ماهو هذا العمل الصالح الذي يشكل قاسماً مشتركاً بين جميع الأديان السماوية، والذي يستحق فاعله – أياً كان معتقده – اسم المسلم إن اقترن بالإيمان بالله واليوم الآخر؟ وما هي التعاليم العامة الشاملة التي جاءت في كل الكتب والرسالات، من نوح إلى محمد عليهما السلام، ناظمة ومبينة لهذا العمل الصالح؟ ونجد الجواب تفصيلاً في قوله تعالى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) الشورى 13.

ونفهم أن هذه التعاليم التي بدأت بنوح هي وصايا (ما وصى به نوحاً) وأن هذه الوصايا تنامت وتراكمت منتقلة من إبراهيم إلى موسى وعيسى، وأنها لابد موجودة في الرسالة المحمدية الخاتم لقوله تعالى (والذي أوحينا إليك) . وننظر في التنزيل الموحى، فنجد هذه الوصايا في سورة الأنعام بقوله تعالى:
(قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم …
ألا تشركوا به شيئا ..
وبالوالدين إحسانا..
ولاتقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ..
ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ..
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق .. ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون)
الأنعام 151
(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ..
وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لانكلف نفساً إلا وسعها..
وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ..
وبعهد الله أوفوا .. ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون)
الأنعام 152.
(وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله .. ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) الأنعام 153 .

ونفهم أن هذه هي الوصايا العشر التي نزلت فرقاناً على موسى، وأنها الصراط المستقيم الذي ندعو الله في كل صلاة أن يهدينا إليه، والذين يقعد الشيطان العدو الظاهر والمخفي (المبين) عنده ليحول الناس عنه، وأنها الأركان الرئيسية للإسلام، والقاسم المشترك للناس جميعاً، وأنها الكلمة السواء التي دعا الرسل أقوامهم إليها وأنها خضعت للتراكم بدءاً من نوح وانتهاء بمحمد (ص) .

فإذا نظرنا في هذه التعاليم والوصايا، وجدنا أنها تمثل فعلاً المثل العليا الإنسانية، والقانون الأخلاقي الذي لايستقيم مجتمع بدونه، وفهمنا أن الإسلام دين عام يشمل كل أهل الأرض، يقوم على الإيمان بالله واليوم الآخر أولاً، وبان لنا مراده تعالى في قوله (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) إذ كيف يقبل الله ديناً هو غير موجود فيه، ويقوم على المثل العليا والقيم الإنسانية ثانياً، هذه هي القيم التي يمكن الإضافة إليها تحت باب الحكمة والتي لاتتوقف إلى يوم القيامة ولكن لايمكن إلغاؤها أو استبدالها، وتدخل في السلوك الإنساني الاجتماعي والأسري والاقتصادي، ومن خلالها يظهر العمل الصالح، وبدونها لايوجد عمل صالح أو مجتمع صالح.

ونفهم أخيراً أن الإسلام ليس دين الرسالة المحمدية فقط، بل دين جميع الرسالات والرسل والأنبياء، وأن المسلمين ليسوا أتباع محمد (ص) حصراً، كما هو سائد اليوم، بل هم كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً والتزم بصراط المثل العليا المستقيم، هذه المثل والقيم التي تدخل ضمن فطرة الإنسان ولاتحتاج إلى برهان عليها وتكمن قوتها أنها تحمل بيناتها في ذاتها وبنفس الوقت ليست قانوناً موضوعياً يفرض نفسه منفصلاً عن الوجود الإنساني الاجتماعي الواعي.. ومن هنا نقول أن الإسلام دين الفطرة الإنسانية طبقاً لدلالة قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). الروم 30. وهذا الدين الحنيف الذي فطر الله الناس عليه لاعلاقة له بصوم رمضان أو بإقامة الصلاة حيث أن الإنسان يصوم رمضان ويقيم الصلاة بالتكليف لا بالفطرة.

ثمة صفتان لهذه التعاليم والقيم والمثل العليا لابد من ايجازهما قبل ختم الحديث عن الإسلام وأركانه. الأولى أنها كل واحد متماسك لايقبل التجزئة والتبعيض، وصراط واحد لايقبل التقسيم، وهذا واضح في قوله تعالى (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه). والثانية أنها لاتخضع مفردة أو مجموعة للوسع والاستطاعة. فليس هناك ايمان بالله على قدر الوسع، ولا امتناع عن قتل النفس ضمن الاستطاعة. فالقضية في أركان الإسلام والوصايا أشبه ماتكون بما يقال في الرياضيات: إما الصفر أو الواحد ولا توسط بينهما.

نقول هذا ونحن نقرأ قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) آل عمران 102 . إي أنه في الإسلام وأركانه المطلوب أن تتقي الله حق تقاته. فكل من يظن أن هذه الآية منسوخة فهو واهم.

3 - الإيمان:

وننتقل إلى مصطلح الإيمان والمؤمنون، ونبدأ بآياته تعالى:
- (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات...) الأحزاب 35 .
- (قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم..) الحجرات 14.
- (يمنون عليك أن أسلموا، قل لاتمنوا علي إسلامكم، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) الحجرات 17.
- (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم) محمد 2 .
- (ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل..) النساء 136 .

نلاحظ من الآيات أعلاه، أن الإسلام متقدم على الإيمان وسابق له، وأنه لا إيمان بلا إسلام. ولكن هل الإيمان نوع واحد، أم أن هناك نوعين من الإيمان، وهل التقوى نوع واحد، أم أن ثمة أكثر من نوع .

قلنا في تعريف الإسلام إنه الإيمان والتسليم بالله (وجوداً ووحدانية) وباليوم الآخر وتنفيذ أوامره في العمل الصالح، وهذا هو الإيمان الأول الذي لايقبل أي إيمان آخر بدونه. ونجد هذا واضحاً في الآية 2 من سورة محمد:
- (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) الإيمان الأول بالله واليوم الآخر والعمل الصالح.
- (وآمنوا بما نزل على محمد) الإيمان الثاني بمحمد ورسالته.

كما نجده واضحاً في الآية 136 من سورة النساء، فالله يطلب من الذين آمنوا بالله واليوم الآخر أن يؤمنوا بالرسول وبكتاب رسالته، وبالكتاب الذي أنزل قبله.
الإيمان الأول - بالله واليوم الآخر - الإسلام - مسلمين.
الإيمان الثاني - بالرسول - الايمان - مؤمنين.

وبما أن كل إيمان يقابله كفر، فقد جاءت الآية بعدها مباشرة لتقول (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) النساء 137.

فإذا فتحنا سورة الحديد الآية 28 نقرأ فيها (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم ..)
ياأيها الذين آمنوا - الإيمان الأول/ الإسلام - الكفل الأول من الرحمة .
اتقوا الله - التقوى الأولى / الإسلام - حق تقاته.
وآمنوا برسوله - الإيمان الثاني / الإيمان - الكفل الثاني من الرحمة.

أما في سورة القصص فنقرأ (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا..) 53،54.
كانوا مسلمين مؤمنين بالله واليوم الآخر - الأجر في المرة الأولى .
آمنوا بالتنزيل الحكيم - الأجر في المرة الثانية.

وكما رأينا من استعراض مصطلح الإسلام والمسلمين في التنزيل الحكيم أن علاقته دائماً بالله تعالى، نرى من استعراض مصطلح الإيمان والمؤمنين أن له علاقة بالرسل، فكل من آمن برسول كان من أتباعه المؤمنين به. ويتضح ذلك في قوله تعالى:
- (ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا..) هود 58.
- (ولما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا..) هود 94.
أما من آمن بموسى فقد سماهم التنزيل الحكيم الذين هادوا، ومن آمن بعيسى سماهم النصارى إما لأنهم نصروه وكانوا من أنصاره أو لأنهم من بلدة الناصرة، ومن آمن بمحمد سماهم المؤمنين. وذلك واضح في قوله تعالى:
- (يا أيها النبي حسبك ومن اتبعك من المؤمنين ..) الأنفال 64.
- (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله..) المائدة 22.
- (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ..) الحجرات 15.
فإذا وقفنا أمام قوله تعالى (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحد من رسله..) البقرة 285.

نفهم أن هناك إيماناً بالله وملائكته يضاف إلى إيمان ثان بالرسل والكتب، وبخاتم أولئك الرسل وبآخر هذه الكتب.

4 - أركان الإيمان:

قلنا في تعريف أركان الإسلام، كما استقيناه من آيات التنزيل الحكيم، إنها الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وأنها مجموعة في الصراط المستقيم المتجسد في الوصايا والمثل العليا والقيم الأخلاقية، ونتابع هنا تعريف أركان الإيمان بالرسل والكتب والرسالات.

يقول تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا مااتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) المائدة 93. ونفهم أن (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) هم المسلمون الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا، وأن التقوى الأولى في الآية هي تقوى الإسلام (حق تقاته) التي تتجلى بالالتزام بالأعمال الصالحة، ونفهم أن الذين آمنوا في (ثم اتقوا وآمنوا) هم المؤمنون الذين آمنوا بالرسول وبالكتاب المنزل عليه، وأن التقوى الثانية في الآية هي تقوى الإيمان (ما استطعتم) التي تتجلى بالالتزام بتكاليف الإيمان وأداء شعائره من صلاة وزكاة وصوم وحج. ثم نفهم أخيراً أن هناك تقوى ثالثة في قوله (ثم اتقوا وأحسنوا) هي تقوى الإحسان، الحاصلة من جمع تقوى الإيمان مع تقوى الإسلام. ثم يختم تعالى هذا كله مشيراً إلى أن الظفر بمحبة الله مرتبط بتقوى الإحسان.

ومن هنا نفهم الفرق الأساسي في أن الإسلام فطرة (مثل عليا) لكل أهل الأرض وأن الإيمان تكليف ضد الفطرة (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) وهو الذي يميز أتباع الرسالة المحمدية عن غيرهم، فأتباع محمد (ص) لايُميزوا ببر الوالدين ولا بالوفاء بالكيل والميزان ولا بالامتناع عن شهادة الزور. فهي عامة شاملة، بل يميزون بالصلاة الشعائرية والصوم. لذا حصل هذا الخلط من أن أركان الإيمان أصبحت أركان الإسلام وهو من باب الأنانية ووقف الجنة على أتباع محمد (ص) .

لقد قلت أنني لم آت بجديد في لتمييز بين الإسلام والإيمان بعد أن ميز الذكر الحكيم بينهما كما رأينا. وكما ميز بينهما العديد من الأئمة منذ القرون الهجرية الأولى. وأن دوري اقتصر على إعادة ترتيب الأولويات التي يمكن في الختام أن نصوغها على الشكل التالي:

- الأولوية الأولى:

وهي الإسلام والإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح (المثل العليا) التي ننطلق منها ونرتكز على بنودها ووصاياها في التعامل مع كل أهل الأرض، لأن معظمهم مسلمون، ولأن هذه المثل والقيم مقبولة عندهم لايرفضها أحد وعلينا ترسيخها في الدولة والمجتمع، وتوضيح أن الإيمان بالرسل وإقامة شعائر الإيمان من صلاة وزكاة وصوم وحج، لايكفي بل ولا يكون بدون هذه المثل والقيم أو بعيداً عنها. وعلينا أيضاً تعميق فهم الناس لمصطلح الإسلام والمسلمين، وتوضيح أنهم ليسوا أتباع النبي العربي محمد (ص) حصراً، بل هم جميع من أشار إليهم تعالى بقوله (لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولاخوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 111،112 .

وأخيراً علينا أن نؤكد في كل أدبياتنا ومجالسنا على أن العمل الصالح الحسن ركن من أركان الإسلام، وأن كل أهل الأرض من المسلمين مطالبون به، وأنه وحده معيار الجرح والتعديل وميزان التقييم بين الناس، وتوضيح أن أبواب العمل الصالح متعددة ومفتوحة على مصراعيها ليوم القيامة، وأن الإبداع والتفنن فيها مطلوب ومأجور، لأن كل ماينفع الخلق يدخل تحت عنوانها على مدى العصور والدهور.

- الأولوية الثانية:

وهي أن شعائر الإيمان (الصلاة والزكاة والصوم والحج) خاصة بالمؤمنين من أتباع محمد (ص) ولامعنى لها بعيداً عن الإسلام لله والعمل الصالح، وأنها شعائر خاصة لاتحمل الطابع العالمي ولا الطابع السياسي، وأنها تكاليف شعائرية لا إبداع فيها ولا تفنن، بل لايجوز أن يكون فيها، لأن الإبداع فيها بدعة، سواء بالزيادة أو بالنقص، فالإبداع في الإسلام حسن محمود، والابتداع في الإيمان قبيح مذموم.

لقد اختلطت عندنا الأولويات، فأخذ ثانويها مكان هامها، واحتل ثانيها محل أولها. وتقدم فيها ما هو من الإيمان على ما هو من الإسلام، حتى صار إفطار يوم في رمضان بالفكر السائد الشائع أخطر من الغش في المواصفات، والسهو عن صلاة بوقتها أكبر من إخسار الكيل والميزان.

ولعل تتبع أسباب هذا الخلط في الأولويات، وتقسيمها إلى أبوابها، من تاريخية ومذهبية وسلطوية، يفيد كثيراً في عملية إعادة ترتيب الأولويات ووضع النقاط على الحروف، لولا أن لهذا مجالاً آخر، يقع تحت عنوان آخر، قد لايتسع له مقالنا هذا.

وأخيراً نسأل السؤال التالي: إن ما يقال عنه الآن صحوة إسلامية .. هل هو فعلاً صحوة إسلامية ؟؟
ولنوضح مفهوم الصحوة نقول ما يلي:

أول مؤشرات الصحوة هو وعي أن حرية الاختيار بين الخير والشر والفجور والتقوى والطاعة والمعصية هي كلمة الله التي سبقت لأهل الأرض جميعاً وقامت المساءلة طبقاً لهذه الحرية.

فنحن نطيع الله بملء إرادتنا، ونعصيه بحرية اختيارنا. وإن الجهاد في سبيل حرية الاختيار لأي إنسان على الأرض بغض النظر عن ملته وعقيدته هو الجهاد في سبيل الله، وقد تأخذ شكل العنف في بعض الشروط الموضوعية، وتأخذ أشكال كثيرة أخرى غير العنف. فالبلاد التي يساق فيها الناس إلى المساجد بالعصا وتُحَجَّب فيها النساء بالقوة فإن كلمة الله فيها هي السفلى، والبلاد التي تمنع فيها الصلاة ويمنع فيها الحجاب بالإكراه فإن كلمة الله فيها هي السفلى أيضاً. وكلما تقلصت مساحة حرية الاختيار عند شعب من الشعوب ازداد قرباً من المملكة الحيوانية وازداد بعداً عن الله ، لأن الله حر ونحن متحررون، والله عليم ونحن متعلمون، وهذا هو معنى قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) أي يكونوا عباداً لي يطيعونني بملء إرادتهم ويعصونني بحرية اختيارهم. وهذه الآية لاعلاقة لها بصوم أو زكاة أو حج.

فالناس عباد الله وليسوا عبيد الله. فالعباد لهم حرية الاختيار ابتداء من الحرية الشخصية وانتهاء بالحرية السياسية وما بينهما ، والعبيد ليس لهم حرية الاختيار. ويعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان خير تعبير عن إعلان أن كلمة الله هي العليا. ومن هذه الحرية تنتج التعددية واختلاف وجهات النظر وتنتج جدلية المجتمعات قاطبة. وعلينا ترسيخ قيمة الحرية في الضمير الإسلامي على أنها القيمة العليا وهي قبل العدالة. فالأحرار (عباد الله) يستطيعون أن يقيموا العدالة، والعبيد لايقدرون على شيء.

إن مفهوم العبودية على أنها لله الذي نسمعه صباح مساء رسَّخ في أنفسنا الذل والضِّعَة والصِّغار. وأصبحت هذه الصفات ضمن عقليتنا وثقافتنا، فالله لم يطلب العبودية من أحد وإنما هي العبادية. ونحن عباد الله في الدنيا، وعبيده يوم الحساب لانتفاء الخيارات هناك. وإن ترسيخ ثقافة العبودية حوَّلَ الناس من مجتمعات إنسانية إلى قطعان قابلة للإنقياد من قبل المستبدين الطغاة.

بما أن الإسلام دين الفطرة ويحمل الطابع العالمي الإنساني فنحن نحقق الصحوة الإسلامية بالأمور التالية:

- في كل بلد دخل الفرد فيه مرتفع والبطالة فيها قليلة، فإن الإسلام بخير، وكل من يعتقد أن أرزاق الإنسان مكتوبة سلفاً فهو واهم طبقاً لآيات التنزيل الحكيم.
- في كل بلد العناية الصحية فيه متوفرة من طب ومشافي بهدف إطالة عمر الإنسان ليعيش بصحة جيدة فالإسلام بخير، وكل من يعتقد أن الأعمار مكتوبة على الناس سلفاً فهو واهم ، لأنه طبقاً للتنزيل الحكيم فالأعمار غير ثابتة.
- في كل بلد القضاء فيه نزيه، وشهادة الزور فيه قليلة ونادرة وعقوبة شهادة الزور والفساد والرشوة عالية فالإسلام بخير .
- في كل بلد يكون فيه الاعتناء بالمياتم والأيتام مهما كانت ملتهم وأصلهم وفيه جمعيات خيرية كثيرة فالإسلام بخير.
- في كل بلد مواصفات الإنتاج متقدمة ودقيقة، ومخالفة المواصفات نادرة وعقوبة مخالفتها شديدة ، والمواد الغذائية والمواد الترفيهية والرياضية متوفرة، فالإسلام بخير.
- في كل بلد علاقات الحلال فيه بين الذكر والأنثى متوفرة وسهلة، وانتقال الثروة بين الأفراد بالوصية لا بعلم الفرائض المزعوم فالإسلام بخير.

وبكلمات مختصرة : إن أحسن وسيلة للتعبير عن الصحوة الإسلامية وقيم الإسلام هي منظمات المجتمع المدني ابتداء من الجمعيات ومروراً بالنقابات وانتهاء بالأحزاب السياسية. وقد فشل السادة العلماء الأفاضل في تقديم الإسلام والإيمان إلى العالم بشكله العالمي والإنساني. بل أصروا على قيم العبودية والآخرة لأنه لايوجد عندهم ما يقدموه للناس في هذه الدنيا. وكذلك فشلت الحركات الإسلامية السياسية في برامجها .
أما الصحوة الإيمانية فتتمثل بما يلي:

1 - إذا زاد عدد صائمي رمضان فالإيمان بخير.
2 - إذا زاد عدد دافعي الزكاة وزادت قيمة الزكاة فالإيمان بخير، وبما أن الزكاة عمل اجتماعي له علاقة بالغير ليس كالصلاة والصوم والحج فهناك زكاة الإسلام وزكاة الإيمان.
3 - إذا زاد عدد مقيمي صلاة الجنازة فالإيمان بخير.
4 - حب الرسول (ص) من الإيمان .

أي نختصر الإيمان والإسلام بالجملتين التاليتين:

كل فضيلة وعمل صالح وإيجابي ليس وقفاً على أتباع الرسالة المحمدية هو من الإسلام، وهذه الفضائل لاعلاقة للسنة النبوية بها، لأن الناس عرفوها دون أن يؤمنوا برسالة محمد (ص) ودون أن يدروا بهذه الرسالة، وعرفوها قبل ومع وبعد هذه الرسالة.

كل فضيلة وعمل صالح لا يقوم به إلا أتباع الرسالة المحمدية فهو من الإيمان. والإيمان تابع للإسلام وبعده لا قبله. وإن الأطروحة التي تقول أن الإسلام يجبُّ ما قبله غير صحيحة لأنه لايوجد شيء قبل الإسلام وإنما الصحيح هو (الإيمان يجبُّ ما قبله) لذا قال في سورة محمد بأن الذين دخلوا في الإيمان برسالة محمد بعد الإيمان بالله (كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم). وهنا نلاحظ أمراً هاماً هو أن الإسلام بعد الإيمان بالله واليوم الآخر مجاله الدنيا حصراً، وهو طريق الآخرة. أما الإيمان مع أركانه فلا علاقة له بالدولة وبالمنظمات المدنية، وإنما هو مرتبط بالمجتمع فقط. وهنا نفهم معنى فصل الدين عن الدولة. وإن قال قائل: أين الأحكام من عقوبات وإرث وزواج ؟ فأقول سأفصّلها في حينها.

فإذا أخذنا بلدا مثل مصر مثلاً، ووضعنا المقاييس المذكورة أعلاه وقارنا الأحوال ما بين عام 1970 وعام 2004 فأننا نحكم بسهولة أن الإسلام تراجع وزادت الغفوة ، لا الصحوة ، وإنه في بلاد كثيرة من التي لاتسمي نفسها بلادا إسلامية الإسلام فيها بخير أكثر مما هو عندنا بكثير .

أما الصحوة التي نراها فهي صحوة إيمانية وهي لاتسمن ولا تغني من جوع بالنسبة لبناء الدول والحضارات، لأن الفائدة منها فردية أخروية. وهكذا نرى أن التركيز في البرامج الدينية يتم على الشعائر والذكر والتلاوة والدعاء والجنة والنار والموت . وأصبح الإنسان الذي يحب الحياة ويكره الموت يشعر أنه مذنب ويستغفر الله، وأصبحت ثقافة الموت هي الشائعة عوضاً عن ثقافة الحياة. وكذلك التركيز على شعائر الإيمان لايضر المستبدين في شيء ولا يهددهم مثقال ذرة.

- الإجرام والمجرمون

> إذا أردنا تعميق فهمنا للإسلام والمسلمين في التنزيل الحكيم، فما علينا إلا أن ننظر في تعريف المصطلح المضاد للإسلام وهو الإجرام، والمصطلح المضاد للمسلمين وهو المجرمين في قوله تعالى:
(أفنجعل المسلمين كالمجرمين * مالكم كيف تحكمون) القلم 35، 36.

لقد ورد الأصل "جرم" ومشتقاته 67 مرة في التنزيل الحكيم. وهو أصل واحد في اللسان العربي يعني القطع. ومنه سميت الأجرام السماوية أجراماً لأنها منفصلة مقطوع بعضها عن بعض. ومنه جاء قوله تعالى: (لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون) النحل 109، أي أن خسارتهم في الآخرة أمر مقطوع ومبتوت به.
وإذا كان المصطلح القانوني المتداول اليوم، يسمي السارق والقاتل والغاصب مجرماً، فإن الأصل في ذلك أن المجرم هو الذي قطع صلته بالمجتمع وقوانينه وانطلق يجري على هواه. تماماً كالمجرم في التنزيل الحكيم، الذي قطع صلته بالله، فأنكر وجوده، وكفر باليوم الآخر، وكذب بالبعث والحساب. وهو ما نطلق عليه بمصطلحنا المعاصر اسم الملحد".

ونقرأ قوله تعالى:
- (.. ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون) القصص 78.
- (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) يس 59.
- (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) الروم 12.
- (يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام * فبأي آلاء ربكما تكذبان * هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون) الرحمن 41، 42، 43.
- (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين) النمل 69.
- (كذلك نفعل بالمجرمين * ويل يؤمئذ للمكذبين) المرسلات 18، 19.

ونحن هنا مع الآيات أمام صور تصف مجرمين ينكرون البعث، ويكفرون بوجود الله، ويكذبون باليوم الآخر، قاموا من أجداثهم بعد نفخة الصور الثانية، فرأوا رأي العين ما كانوا يكذبون بوجوده، فبهتوا دهشة، وبان ذلك على وجوههم، إلى حد لا يحتاجون معه إلى سؤال وجواب، فهم يؤخذون بدلالة ما ارتسم على وجوههم، ليصلوا النار التي كانوا بها يكذبون.

أما لماذا لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم، فسببه واضح تماماً. أولاً لأن المجرم إنسان ملحد لا يؤمن بوجود الله، وهذا وحده كاف لأن يعطيه تذكرة مرور إلى جهنم دونما حاجة إلى ميزان أو حساب، إذ ليس له بالأصل أي كشف حساب مفتوح عند الله بحكم قطعه لصلته به. ثانياً لأن الذنوب مع الله كترك الصلاة وإفطار رمضان وإخسار الكيل وتطفيف الميزان، ذنوب قابلة للأخذ والرد والتكفير والمغفرة، لو أن صاحبها آمن مبدئياً بالله واليوم الآخر. أما مع المجرم فلا حاجة للسؤال عن الذنوب، وقد تحقق الإجرام بالله والتكذيب بيوم الدين، وقطع الصلة مع الله واليوم الآخر.

ومن هنا .. من قولنا بقطع الصلة .. نفهم قوله تعالى:
- (إلا أصحاب اليمين * في جنات يتساءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين) المدثر 39-46.

الصورة هنا لأصحاب اليمين في الجنة، يسألون المجرمين ماذا أوصلكم إلى النار؟ فيجيب المجرمون: لأننا لم نعتنق الإسلام نظرياً وعملياً. لم نسلّم بوجود الله فقطعنا صلتنا به (لم نك من المصلين) ولم نسلّم باليوم الآخر (وكنا نكذب بيوم الدين)، ولم نقدم عملاً ينفع الخلق (لم نك نطعم المسكين) بل عملنا ما يسيء ويضر (وكنا نخوض مع الخائضين)، إلى أن رأينا يقيناً كل ذلك حاضراً، فانتهينا إلى ما ترون.

ولقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المصلين في الآية هم مقيمو الصلاة، إلا أننا حين رجعنا إلى آيات التنزيل الحكيم، لم نجده يطلق اسم المصلين على القائمين بالصلاة هذا من جهة، من جهة أخرى ترك الصلاة أو الصيام لا علاقة له بالإيمان بالله واليوم الآخر، ومرتكبوها ليسوا مجرمين، بحيث ينطبق عليهم وصف التنزيل الحكيم. نقول هذا ونحن نستذكر قوله تعالى: (أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدعّ اليتيم * ولا يحضّ على طعام المسكين * فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراؤون * ويمنعون الماعون) سورة الماعون.

فالشبه كبير بين سورة المدثر وسورة الماعون، لأن التكذيب بيوم الدين كالكفر بوجود الله، يخرج الإنسان من دائرة الإسلام إلى دائرة الإجرام، ولهذا فنحن أميل إلى أن المقصود في السورتين بالمصلين، هو الصلة وليس الصلوة، وأميل في فهم الآيات على النحو الذي أسلفناه، لأن لنا في المصلين ومقيمي الصلاة قولاً نفصله فيما بعد.
ونعود إلى سورة المدثر وإلى قوله تعالى: (قالوا لم نك من المصلين).

لقد قلنا إننا نميل إلى اعتبار المصلين في الآية من الصلاة الصلة وليس من الصلوة الركوع والسجود، وذلك بدلالة ما سلف قوله، مضافاً إليه أمرين:
1 - يقول تعالى في سورة المدثر الآية 26: (سأصليه سقر). والمقصود هو الوليد ابن المغيرة، الذي أدبر واستكبر حين سمع التنزيل الحكيم، وقال إنه سحر من قول البشر.
والوليد بن المغيرة بحسب المصطلح القرآني مجرم كافر بوجود الله منكر ليوم القيامة مكذب بالبعث، والله سبحانه سيصليه سقر لهذا السبب. فحين يسأل أصحاب اليمين المجرمين ما سلككم في سقر، فإننا نفهم بأن الوليد من بين هؤلاء المجرمين الكافرين بوجود الله المكذبين بيوم الدين !! ونرى من السطحية بمكان أن يجيب الوليد بأن سبب دخوله النار، هو أنه لم يكن من مقيمي الصلوة .. إذ لا تعد الصلوة بجانب الإجرام شيئاً مذكوراً.
2- لا خلاف في أن سورة المدثر وسورة الماعون من السور المكية، بينما نزلت الصلوة في المدينة المنورة (أو في المعراج كما يقولون (؟)) وحدث هذا في آخر المرحلة المكية بعد سورة المدثر. فكيف يعقل أن يعتبر الوليد نفسه تاركاً لأمر لم يعاصر التكليف به، بل والأكثر من ذلك، أن يعتبرها أحد أسباب دخوله النار. علماً أنه في ذلك الوقت لم يكن الصحابة أنفسهم قد أقاموا الصلوة.

إن للمجرمين في التنزيل الحكيم صفات مميزة يعرفون بها:
1 - فهم لا يخفون أنفسهم (يعرف المجرمون بسيماهم ..) الرحمن 41.
2 - ويضحكون من المسلمين المؤمنين بالله واليوم الآخر ويستهزئون بهم (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) المطففين 29.
3- وقطعوا كل صلة لهم بالله، بدلالة تسميتهم مجرمين.
4 - ليس لهم وقفة أمام الله في الآخرة، وليس لهم كشف حساب مفتوح عنده، إذ ليس مع الإجرام ذنب (.. ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون) القصص 78.
5- المجرمون المكذبون المستهزئون حصة الله تعالى في الحياة الدنيا، لقوله:
- (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) القلم 44.
- (إنا كفيناك المستهزئين) الحجر 95.

وهذه الصفات التي اختاروها لأنفسهم، هي التي تدخل بهم إلى أعمق وديان جهنم، وتميزهم عن المسلمين المؤمنين الذين شاب صلوتهم المكتوبة سهو أو غفلة لسبب أو لآخر.

وهكذا نرى أن قوله تعالى (فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون) تعني المسلم الذي انتقل من حالة الإسلام إلى حالة الإجرام، أي أنه كان مسلماً فانتقل إلى الإلحاد، ولاتعني مطلقاً المتقاعس عن أداء الصلوات الخمس.

ونختم مقالنا بقولنا إن الإسلام لا يتم إلا بالصلة بالله (الإيمان بالله واليوم الآخر) وقد ورد ذلك في قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) الأنعام 162، 163.

نلاحظ في آيتي الأنعام أن الصلاة جاءت من الصلة وجاء في آخر الآية ذكر المسلمين. أما قوله (.. وأنا أول المسلمين) فتعني أن الإسلام الذي بدأ بنوح آل إلي ، أي انتهى بي ، وإلا فكيف يكون نوح من المسلمين وإبراهيم أبا المسلمين ثم يصبح محمد أول المسلمين؟ هنا الأول بمعنى النهاية والمآل. وهذا ينطبق مع قوله تعالى:
وأنا أول المسلمين ===> اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.
وأنا أول المسلمين ==> ولكن رسول الله وخاتم النبيين.
كما ورد في سورة المعارج وهي مكية قوله تعالى:
- (إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون) المعارج 19-23. وكذلك قوله تعالى:
- (والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون * أولئك في جنات مكرمون) المعارج 33-35. ونلاحظ أن الصلاة جاءت في الحالتين من الصلة وليس من الصلوة، لأن سورة المعارج من السور المكية.

المصلون ومقيمو الصلاة:

لقد رأينا أن من الضروري توضيح معنى الصلاة، جرياً وراء التوفيق ورفع اللبس بين قوله تعالى في سورة الماعون (فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون) واعتبار هذا القول موجهاً للمتقاعس عن أداء الصلاة بأوقاتها، كما ترى كتب التفسير، وبين قوله تعالى في سورة المرسلات (ويل يؤمئذ للمكذبين * … * كذلك نفعل بالمجرمين).

واللبس يتلخص في أن الله سبحانه يتوعد المؤمن المتقاعس عن الصلاة بالويل (وهو واد سحيق من وديان جهنم)، ويتوعد به في ذات الوقت المجرمين المكذبين. ومن المستحيل أن يستوي في عدل الله سبحانه المسلم المؤمن المقصر في أداء الشعائر، والمكذب المجرم الكافر بوجود الله والمنكر للبعث ولليوم الآخر، وهو الذي يقول في محكم تنزيله:
- (أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون) القلم 35، 36.

والحل في رأينا، يكمن في مفهوم الصلاة ذاتها.فقد وردت الصلاة في التنزيل الحكيم بمعنيين محددين يختلف أحدهما عن الآخر في الشكل، ويلتقي معه في المضمون، فالصلاة في الحالتين صلة بين العبد وربه أساسها الدعاء. ولكن هذه الصلة أخذت منذ إبراهيم شكلين هما:

1 - صلة بين العبد وربه قالبها الدعاء، لا تحتاج إلى إقامة وطقوس، يؤديها كل إنسان له بالله صلة على طريقته الخاصة. (وقد وردت في التنزيل الحكيم "الصلاة" بالألف). ومن يقوم بها هو من المصلين، إذ يكفي أن تقول (يا رب ساعدني) أو تقول (سبحان الله وبحمده) حتى تكون من المصلين .
2 - صلة بين العبد وربه، لها طقوس وحركات محددة خاصة بها، كالقيام والركوع والسجود والقراءة، وتحتاج إلى إقامة، أي على الإنسان أن يقوم ليؤديها. (وقد وردت في التنزيل الحكيم "الصلوة" بالواو). وهي من شعائر الإيمان.
فإذا أردنا أن نفرق بين كل من هذين المعنيين في التنزيل الحكيم، فما علينا إلا أن ننظر في قوله تعالى:
- (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والإبصار) النور 37. هنا الصلوة (بالواو).
- وفي قوله تعالى:
- (ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه، والله عليم بما يفعلون) النور 41. هنا الصلاة (بالألف).

ونلاحظ أن الصلوة وردت في الآية الأولى بالواو، وبعد فعل الإقامة، ونفهم هنا أنها بمعنى القيام والركوع والسجود، أما في الآية الثانية، فقد وردت الصلاة بالألف (صلاته)، والحديث فيها عن الطيور. ولما كنا نعلم أن الطيور لا تقيم الصلوة الطقسية المحددة بالركوع والسجود والقيام والقعود، فإننا نفهم أنها هنا بمعنى الصلة مع الله. وهي صلة تسبيح ودعاء يعلمها الطير ولا نعلمها نحن، لولا أن أخبرنا تعالى بوجودها.

نخلص إلى أن التنزيل الحكيم قد ميز في النطق سماعاً من جبريل وفي الخط كتابة بعد التدوين، بين الصلوة والصلاة. ليدلنا على وجوب تمييز المعنى المقصود من الأولى وأنها القيام والقعود والركوع والسجود، والمعنى المقصود من الثانية وأنها صلة تسبيح ودعاء تنبع من إقرار بوجود صلة بين العبد وربه. فإذا وقفنا أمام قوله تعالى:
(إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) الأحزاب 56

وفهمنا أن فعل "يصلون" وفعل "صلوا" هو من الصلوة، يصير معنى الآية أن الله وملائكته يقومون ويقعدون ويركعون ويسجدون على النبي، سبحانه وتعالى علواً كبيراً. وأن على الذين آمنوا أن يركعوا ويسجدوا أيضاً على النبي.

ولكن الفعلين في الآية من الصلاة، أي الصلة، فيصبح معنى الآية أن هناك صلة بين الله وملائكته من جهة، وبين النبي من جهة ثانية، وأن الله يطلب من المؤمنين أن يقيموا صلة بينهم وبين النبي، قال بعضهم إنها الدعاء. وأنا أرى أنها أكثر من ذلك، ففي أذان الصلوة ذكر لله والرسول، وفي القعود الأوسط والأخير ذكر للنبي ولإبراهيم. ذكر النبي لأنه أبو المؤمنين، وذكر إبراهيم لأنه أبو المسلمين.

وأرى أن الله وملائكته يصلون على النبي، والمطلوب منا نحن أن نصلي عليه ونسلم. ومن هنا فإن من الخطأ الفاحش أن نقول "اللهم صل وسلم على محمد" أو أن نقول "صلى الله عليه وسلم" لأن الله يصلي على النبي ولا يسلم، والمطلوب منا نحن أن نصلي ونسلم.

فالقاسم المشترك بين الله وملائكته من جهة، والمؤمنين من جهة أخرى هو الصلاة على النبي، إلا أن ثمة خصوصية للمؤمنين فقط هي التسليم، ولهذا قال (.. وسلموا تسليما) ولم يقل (وسلموا سلاما). أي أن علينا نحن المؤمنين أن نسلم بوجود هذه الصلة بين الله وملائكته والنبي، وبيننا نحن وبين النبي فالتسليم هو الإذعان والقبول بلا قيد ولا شرط، كما في قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً * وسبحوه بكرة وأصيلا * هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وكان بالمؤمنين رحيما) الأحزاب 41، 42، 43.

الله وملائكته هنا يصلون على المؤمنين .. فهي ليست صلوة، بل صلة وصلاة عمودها الهدى وقائمها الرحمة. ونتابع قوله تعالى:
- (إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) الأحزاب 56.

الله وملائكته هنا يصلون على النبي، باعتبار النبي من المؤمنين الذين خاطبتهم الآية 43، ثم يأتي أمر الله للذين آمنوا أن يصلوا هم أيضاً عليه ويسلموا تسليما.

ويقف المؤمنون حائرين .. لأن صلاة الله وملائكته على النبي هدى ورحمة، وهم لا يملكون للنبي هدى ولا يملكون له رحمة .. فكيف يصلون عليه؟ .. وتنزل الآيتان بعدها مباشرة:
- (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهينا * والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوه فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا) الأحزاب 57، 58

هنا اتضحت الصورة وتلاشت الحيرة وانكشف اللبس. فالله وملائكته يصلون على المؤمنين رحمة وهدى، ويصلون على النبي باعتباره من المؤمنين أيضاً رحمة وهدى، وهذا كله منسوباً إلى الله ومن زاويته. أما من زاوية المؤمنين، فهم مأمورون بالصلاة على النبي. لكن النبي بالنسبة إليهم رسول، وإذا ما أمرت الآية 58 بكف الأذى مطلقاً وبكل أنواعه عن المؤمنين والمؤمنات والنبي من بينهم، فإن الآية 57 تشير إلى أن إيذاءه كرسول أبلغ أثراً، وأشد عند الله عقاباً، فالذي يؤذي الرسول يطرد من الرحمة (التي وردت في الآية 43) في الدنيا والآخرة.

ويتعرض لما أعده الله له من عذاب مهين. أما لماذا أمرنا بالصلاة على النبي من مقام النبوة وليس من مقام الرسالة، (أي لم يقل يصلون على الرسول) فهذا أمرٌ له بحث خاص. وكذلك صلاتنا على النبي هو عدم تعريضه للأذى. وإيذاؤه يكون بالبهتان إلى ما ينسب له من أقوال ، ونقول بأن أقواله هذه هي وحي، فهذا إيذاء لله وللرسول (ص)، ولا أرى أمة آذت الله ورسوله كأمتنا في القرن الأول الهجري بقدر ما انتحلوا عليه من أقوال وكلها بهتان نسبوها له ولله سبحانه.

والذين انتحلوا عليه هم من أمته وقومه، ولم يأتوا من الصين أو من بلاد الفرنجة. وقد ابتدع السادة العلماء الأفاضل علماً قائماً بذاته اسمه الجرح والتعديل وطبقات الرجال، ولكن لم يقولوا لنا لماذا ابتدعوا هذا العلم الذي لم يسبق له مثيل بهذا الحجم في التاريخ كله وهل هذا خير القرون؟

لقد ورد الأصل (صلو) ومشتقاته في التنزيل الحكيم 99 مرة، جاء لفظ (الصلوة) بالواو في 67 موضعاً منها. ونلاحظ في هذه المواضع أن الصلاة ارتبطت بالإقامة حيناً وبالزكاة حيناً أو دل سياق الآية بمعناها العام أن المقصود هو القيام والقعود والركوع والسجود، وليس الصلة.

ونقرأ قوله تعالى:
- (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون) البقرة 3.
- (وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلوة والزكاة ما دمت حيا) مريم 31.
- (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون) المائدة 91.
أما حين تأتي مضافة فنجدها حيناً بالواو وحيناً بالألف.
- (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم، إن صلوتك سكن لهم، والله سميع عليم) التوبة 103.
- (قل ادعوا الله وادعوا الرحمن، أيا ما تدعون فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) الإسراء 110.
- لكنها في الحالتين لا تخرج عما ذكرنا. فالصلوة في التوبة، والصلاة في الإسراء هي الصلة بالدعاء، كما هو واضح.
- وكما أن فعل الصلاة والصلوة واحد، صلى / يصلي / صل/ يصلون، فكذلك الجمع منهما واحد. فالصلوات جمع الصلاة بمعنى الصلة، والصلوات جمع الصلوة بمعنى الركوع والسجود. يقول تعالى: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون) البقرة 157.
- (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ..) التوبة 99. وهي هنا جمع الصلاة بمعنى الصلة.
- (حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى وقوموا لله قانتين) البقرة 238.

وهي هنا جمع الصلوة وهي الركوع والسجود. ومن المفيد أن نشير استطراداً إلى أن المقصود بالصلوة الوسطى في الآية، هي الصلوة المعتدلة الخاشعة المطمئنة التي تكاملت أركانها بلا إفراط ولا تفريط، وليست صلوة العصر كما يحلو لبعض المفسرين أن يزعموا. وإن مفهوم الوسطية هو أن نكون من أحسن الأمم ولا يعني كما يقال حالة بينَ بين .

فإذا سأل سائل عن قوله تعالى:
- (قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ..) هود 87.

- (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر اسماعيل واسحق، إن ربي لسميع الدعاء * رب اجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي، ربنا وتقبل دعاء) إبراهيم 39، 40.
- وهذا يعني أن الصلوة بركوعها وسجودها وقيامها وقعودها كانت معروفة منذ إبراهيم .. فأين ضاعت هذه الصلوة ولم تصل إلى عهد النبي (ص)؟ نقول، لقد جاء جواب ذلك في صورة مريم بقوله تعالى:
- (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا، إذ تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا) مريم 58، 59.
- ونفهم هنا ان صلوة الركوع والسجود التي كانت عند إبراهيم واسماعيل وشعيب وعيسى وزكريا قد ضاعت عند الخلف من بعدهم، لكن صلاة الصلة بالله بقيت موجودة ولم تنقطع، بدليل قوله تعالى عن مشركي العرب:
- (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ..) لقمان 25.

فالمشركون يعرفون أن الخالق هو الله، وعلى هذا فقد سماهم التنزيل مشركين ولم يسمهم مجرمين، واعتبروا عبادتهم للأصنام نوعاً من الصلة مع الله في زعمهم، لقوله تعالى:
- (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ..) الزمر 3 .

وهكذا نستنتج أن المصلين هم المسلمون، فإذا أصبحوا مقيمي الصلوة فهم من المؤمنين .

والحمد لله رب العالمين .....



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق